إذا كان ثمة من لا يزال يعتقد بأن السلام يحظى بفرصة، فإن ما تتعرض له مدينة السلام، يقفل أية فرصة أمام السلام. البوابات الإلكترونية التي وضعتها إسرائيل على بوابات المسجد الأقصى، تنطوي على رمزية أبعد من المسجد الأقصى، فلقد دأبت حكومة نتنياهو على وضع مثل هذه البوابات أمام عملية السلام، وأمام كل المبادرات، التي يحدو أصحابها أمل في أن تعيد فتح تلك البوابات أمام السلام. كانت إسرائيل ستفعل ما تفعله بوجود أو عدم وجود مبرر لكنها استغلت أبشع استغلال عملية قتل الشرطيين الإسرائيليين، اللذين كان وجودهما في باحات المسجد الأقصى يشكل استفزازاً ويستدعي ردود فعل مشابهة. في الخفاء الحكومة الإسرائيلية وعلى رأسها بنيامين نتنياهو، متفقة على ضرورة إبقاء الحرم القدسي مغلقاً، والاختلاف في النبرة، بين من يقول بفتحه على نحو متدرج ومن يدعو لمواصلة إغلاقه ان هو إلاّ تضليل وتلاعب دبلوماسي. الحرم القدسي مغلق فعلياً منذ يوم الجمعة الماضي، على الرغم من أن عدداً من الدول العربية بما في ذلك مصر والسعودية والأردن، اتخذت مواقف علنية مهمة.
لا تصاب دولة الاحتلال بأي مستوى من الحرج، فهي ستقول إنها تواجه الإرهاب، العدو الآثم الذي تتفق الدنيا على مواجهته وأن ما تقوم به من إرهاب يستهدف حماية أمن المصلين، وضمان حرية الوصول إلى الأماكن المقدسة، تتجاهل إسرائيل أن حكومتها أوكلت مهمة الإشراف على الحرم القدسي لبلدية القدس، التي لم تبق لدائرة الأوقاف أية فعالية. وسيقول نتنياهو إنه أصدر أوامره بفتح المسجد الأقصى أمام المصلين بعد يومين من إغلاقه وأن المشكلة تكمن في رفض سدنة الحرم، والمصلين، الدخول إليه من البوابات الإلكترونية. لن تتراجع إسرائيل، طالما أن معركة الحرم المقدسي انفتحت، فهي منذ زمن تتبع سياسة منهاجية يحذر الكل من أنها تستهدف فرض واقع التقسيم المكاني والزماني على الحرم. المرابطون والمصلون، يواصلون أداء صلواتهم خارج البوابات الإلكترونية، ويرفضون الإجراءات الإسرائيلية ذلك أنهم يعرفون حق المعرفة أن تلك البوابات ستكون بوابات عار، وبوابات للحط من كرامة من يُسمح له بالدخول.
حين تطلق الشرطة الإسرائيلية عيارات نارية أو مطاطية وتصيب شخصيات مهمة من مستوى الشيخ عكرمة صبري والدكتور مصطفى البرغوثي، إضافة إلى بعض الصحافيين فإنها توجه رسالة لكل المتدخلين بأنها جادة ومستمرة في سعيها لفرض أهدافها. وبصراحة فإن إسرائيل لا تستهدف فقط حسم معركة القدس، وإنهاء ملفها بالطريقة التي تناسبها، وإنماً، أيضاً تسعى لإثارة غضب الفلسطينيين، الى الحد الذي يجعلها تواصل التحريض على السياسة الفلسطينية وتعتبرها السبب في تعطيل الجهد الأميركي الهادف لاستئناف المفاوضات.
إزاء ملف القدس، والعبث الإسرائيلي فيه، أطراف عديدة تتحمّل المسؤولية عن كل ما يجري في هذا الملف. الولايات المتحدة على رأس هذه الأطراف وليست أولها. من الواضح أن نوايا ومبادرات الولايات المتحدة تخضع لاختبار صعب آخر، إذ هي حتى الآن لم تستطع تجاوز عقبة الاستيطان الإسرائيلي المتواصل بكثافة، ولو كانت الإدارة الأميركية جادة فيما تدعي أنها ترغب في تحقيقه لكانت تدخلت بقوة لدى حكومة نتنياهو لوقف ما يجري. غير أن ما يجري يشكّل، أيضا اختبارا قويا لمصداقية العلاقات الأميركية والعربية والإسلامية، تلك العلاقات التي شهدت تطوراً مدهشاً إثر زيارة ترامب للرياض، والحصاد الذي عاد به. وعلى الجانب الآخر فإن الموقف الأميركي المتخاذل، والمتواطئ على ما تقوم به إسرائيل، يؤكد من ناحية الأولوية المطلقة للعلاقة مع إسرائيل على حساب أية أطراف أخرى، الأمر الذي يضع السياسات العربية والإسلامية أمام اختبار صعب، أيضاً.
كالعادة، يكثر العرب والمسلمون من التصريحات والإدانات، لكن إسرائيل تسمع بدون أي اهتمام طالما، أن الأقوال في واد والأفعال في واد آخر. لقد أهمل العرب والمسلمون موضوع المعركة الدائرة منذ زمن في القدس وعليها، وأكثروا من المؤتمرات والمسمّيات التي لا تسمن ولا تغني من جوع، ولم يبق أمامهم سوى البكاء على الأطلال والبحث عن ذرائع لتبرئة الذمم.
والآن هل يمكن لفلسطيني أن يتنصل من المسؤولية؟ إن كان هناك من يدعي أنه لم يتأخر عن القيام بمسؤولياته تجاه القدس فليسأل مؤسساتها الوطنية، وليسأل سكانها، وأزقّتها ومعالمها التاريخية. مرة أخرى لا بد من التذكير بالنتائج التي جرّها الانقسام الفلسطيني على كل الملفات التي تتعلق بالحقوق الوطنية.
لم يعد الحديث مهماً عمن يتحمّل المسؤولية عن استمرار الانقسام، طالما أنه قائم ويتعمّق يوماً بعد الآخر، ويتسبّب في المزيد من المعاناة واليأس والإحباط للجماهير الفلسطينية. في هذا الإطار يتوجب التحذير من أي تصعيد ذات طابع عنفي، لأن ذلك سيعجِّل من تحقيق إسرائيل لأهدافها في السيطرة على المسجد الأقصى، وربما تستغله إسرائيل في التعجيل بمخططاتها التوسعية في الضفة الغربية. مطلوب إطلاق طاقة الشعب، في كل الأراضي المحتلة، لمواجهة الاحتلال بالوسائل السلمية. الوضع يشكل اختباراً للقيادة السياسية، بل للقيادات التي عليها أن تضع خلافاتها ومخاوفها وحساباتها جانباً، لخوض المعركة بكفالة وطنية جامعة. لا يجوز أبداً أن تخضع حسابات المواجهة الراهنة لحسابات الأوضاع التي أدت إلى تراجع انتفاضة السكاكين، والتي لعبت السياسة الفلسطينية الرسمية، ولعب الانقسام دوراً بارزاً في وأدها، انطلاقاً من حسابات غير صحيحة.