في أكتوبر عام 2000، قرر أرئيل شارون، رئيس المعارضة الإسرائيلية آنذاك، دخول المسجد الأقصى بمرافقة قوات من الشرطة الإسرائيلية، غضبت الجماهير المسلمة والفلسطينية عمومًا لما يحمل من دلالات أقلها التجاهل لحرمة المسجد، خاصة أنه حدث بعد أيام من ذكرى مذبحة صبرا وشاتيلا التي حمل شارون مسؤولية شخصية في وقوعها! اندلعت المظاهرات الغاضبة استنفارًا لدخول شارون الأقصى محصنًا بحماية أفراد من الشرطة الإسرائيلية المدججين بالسلاح، غير عابئين بمشاعر المسلمين وغضب الفلسطينيين وبالذات السفاح شارون، المسؤول الأول عن مذبحة صبرا وشاتيلا، فكانت «هبة الأقصى» الأولى أو «هبة أكتوبر» من أهم الأحداث في تاريخ فلسطينيي الداخل الإسرائيلي، إذ أثرت بشكل كبير على علاقتهم بالسلطة الإسرائيلية والمواطنين اليهود في دولة الاحتلال، وأسفرت المظاهرات عن سقوط 13 شهيدًا من فلسطينيي 48، تُخلد ذكراهم سنويًا، فمنذ نشأة إسرائيل بعد حرب عام 1948 ومواطنوها العرب يعيشون واقعًا مركبًا.
سلسلة القوانين التي تم سنها وواقع الحكم العسكري الذي فرض على المناطق العربية حتى عام 1966 أديا إلى مصادرة كثير من أملاك المواطنين العرب على يد الاحتلال، عرب الداخل وفلسطينيو كل من الضفة الغربية وقطاع غزة هم تاريخيًا شعب واحد والتوتر المستمر بين إسرائيل والفلسطينيين في الضفة والقطاع أدى إلى تعقيد علاقة عرب الداخل (عرب 48) مع إسرائيل التي حاولت بكل الطرق عزلهم وتحييدهم عن محيطهم الفلسطينى في الضفة والقطاع، كما أن المواطنين اليهود سبب التمييز الذي يعاني منه المواطنون العرب.
صدامات مع السلطات الإسرائيلية في كثير من الأحيان كأحداث يوم الأرض والإضرابات أثناء الانتفاضة الأولى أمور زادت من شحن الأجواء وتوتر العلاقة على مر السنين، لذا لم يكن مستغربًا أن تنطلق شرارة البدء لـ«هبتي الأقصى» من مناطق عرب 48 الذين لم ينسوا هويتهم العربية الفلسطينية رغم محاولات إسرائيل لدمجهم في المجتمع الإسرائيلى بمنحهم الجنسية وبعض المزايا المتواضعة كمواطنين إسرائيليين لكن بدرجة متدنية عن المواطن الإسرائيلى اليهودي.
منذ احتلالها للقدس تحاول إسرائيل فرض هيمنتها على تاريخها وتراثها ومقدساتها أملًا في محو الهوية العربية وإثبات وجود جبل الهيكل المزعوم تحت المسجد الأقصى كمبرر لفرض سياسة الأمر الواقع بالسيطرة عليها واعتبارها «القدس الموحدة» العاصمة الأبدية لإسرائيل، ومع تنفيذ عملية المسجد الأقصى، الجمعة الماضي، التي نفذها ثلاثة شبان من مناطق 48 من بلدة أم الفحم، خُيِّل للاحتلال أن الفرصة باتت مواتية والحجج قوية للتحكم في المسجد الأقصى ومقدراته وآن الأوان للهيمنة والسيطرة على كل ما يتعلق به، فسارعت بإنشاء البوابات الإلكترونية على مدخل باب الأسباط الذي يدخل منه المواطنون للمسجد الأقصى والتي ستكون بمثابة الشرارة لانطلاق انتفاضة جديدة كامنة في انتظار إشارة البدء، فالبوابات الالكترونية ستظل عامل استفزاز دائم للفلسطينيين والمقدسيين في القدس إذا بقيت، عدا عن أنها تغيير للأمر الواقع وتأكيد على سيادة إسرائيل، وتركيب البوابات يعني السماح بالدخول والخروج لمن تشاء قوات الاحتلال، واستمرار وجودها سيكون بمثابة الشرارة لانفجار أشمل وأكبر على مستوى الضفة الغربية وقطاع غزة والداخل الإسرائيلي (عرب 48)، وهو مؤشر خطير لمزيد من التصعيد والمواجهات مع قوات الاحتلال في المستقبل، ويبدو أن عملية القدس التي انطلقت من مناطق 48 ستكون البداية لما هو أبعد وأعمق من حدود الحدث!.
رغم أن عملية القدس تعبر عن فيض الغضب الفلسطيني لإجراءات الاحتلال بالذات من العرب في مناطق 48 لكنها بدت كرسالة تحذير أيضا لإسرائيل بأن القادم أسوأ والمقاومة لن تندثر، إلا أن أخطر تداعياتها السلبية هي تلك البوابات الإلكترونية التي تريد إسرائيل من خلالها التأكيد على أن القدس تخضع لسيادتها بالكامل بفرض سياسة الأمر الواقع من خلال توظيف عملية القدس للتضييق على السكان والمصلين المقدسيين، وهو أمر مرفوض بالقطع فلسطينيًا وسيزيد من حدّة المواجهات مع إسرائيل في الوقت الذي يقف فيه المجتمع الدولى متفرجًا، أما الدول العربية والإسلامية فتلعب دور «المراقب» دون الالتفات إلى خطورة ما يجري! وهو ما دأبت عليه سنوات طويلة، فاكتفت ببيانات الإدانة والاستنكار والشجب، دون أن تتخذ إجراءً واحدًا حازمًا يلجم أطماع إسرائيل أو حتى تأخذه دولة الاحتلال في الاعتبار!!.
خطوة تركيب البوابات الإلكترونية ما هي إلا بداية لخطوات قادمة أكثر خطورة في حال مرت وفُرضت كأمر واقع لا فكاك منه، وإن لم يكن هناك تحرك عربي وإسلامي باتجاه ما يجري في المسجد الأقصى يُخيّب ظن إسرائيل التي تعودت على ردود الفعل الهزيلة والمخجلة للدول الإسلامية والعربية، فإن الاحتلال سيمضي قُدُمًا في فرض إجراءاته تجاه المسجد الأقصى والقدس عمومًا، بعد أن حوّلت إسرائيل القضية من صراع ضد الفلسطينيين إلى صراع ضد المسلمين!.
عن المصري اليوم