وكالة خبر : اطلس للدراسات
مؤتمر إعادة إعمار غزة، الذي انعقد في القاهرة في الثاني عشر من أكتوبر من العام الماضي، ربط بين إعادة إعمار غزة وبين عودة سيطرة السلطة الفلسطينية على القطاع ومعابره وحدوده، في محاولة من المجتمع الدولي في حينه لاستخدام أوراقه للضغط والتأثير لصالح إعادة السلطة للقطاع أو خلق ظروف ضاغطة لمصالحة فلسطينية، ووفر ذلك في حينه أيضًا مخرجًا للمجتمع الدولي وإسرائيل لتقديم مساعداته للقطاع عبر جهات فلسطينية يصفها بـ "الشرعية"، يجنبها "حرج" التعاون مع جهات تصفها إسرائيل بـ "الإرهابية".
اليوم، وبعد مضي أشهر عديده على الحرب، وعلى مؤتمر المانحين، دون ان يتم البدء عمليًا بتحريك عجلة إعادة الإعمار لأسباب من بينها فشل كل الجهود الرامية لإعادة السلطة للقطاع وأقله للسيطرة على المعابر، وفي ظل تفاقم الأوضاع المعيشية في القطاع، واحتقان الحالة الأمنية في حال استمرار الحصار، واختراقات اسرائيل للتهدئة الهشة أصلًا، والتي لم تصل الى أبعد من مجرد تفاهمات مبدئية أولية كان يجب ان تؤسس لاتفاق شامل ينهي الحصار، يضاف لذلك عودة حكومة إسرائيلية أكثر تطرفًا وتعنتًا في الموضوع السياسي؛ كل ذلك يترجم اليوم في صيغة حراك دولي جديد تجاه غزة، مدعوم إسرائيليًا، بل ويستقيم مع الموقف الإسرائيلي، يستند الى الاعتراف الضمني بخطأ رهن إعادة إعمار غزة بعودة السلطة الفلسطينية، وهو ما عبرت عنه صحيفة "يديعوت احرونوت" بقولها "الإصرار السياسي الإسرائيلي والدولي على تقديم الموارد اللازمة لإعادة إعمار غزة فقط للسلطة الفلسطينية هو خطأ كبير، و يجب على إسرائيل أن تبادر في إعادة الإعمار، كما يجب تقديم مواد البناء اللازمة للحكومة الفلسطينية الحالية في غزة، وهي حركة حماس"، وحثت الصحيفة حكومة نتنياهو بالسماح لحماس بالتحرك لإعادة الإعمار.
تقارير ومقالات إسرائيلية كثيرة نشرت في الأسابيع الأخيرة من قبل مختصين وأمنيين سابقين ومحللين، علاوة على دعوات من جهات رسمية إسرائيلية، كلها تشجع الحكومة الاسرائيلية على تقديم التسهيلات اللازمة لإعادة الإعمار، بما يساعد على تنفيس الاحتقان ويبعد شبح المواجهة القادمة، ويحقق المصالح الأمنية الإسرائيلية ذات العلاقة بالقطاع، والمحصورة بالهدوء الأمني وإعفاء المجتمع الاسرائيلي من أعباء وأكلاف مواجهات عقيمة قد تندلع في كل وقت، في حال استمرار تفاقم الظروف الإنسانية في القطاع.
ويبدو أن إسرائيل الرسمية باتت تدرك خطورة استمرار الحال على ما هو عليه في القطاع، وأصبح إعمار غزة وتخفيف التوتر فيه يشكل مصلحة مشتركة لها ولحركة حماس، مع ذلك لا زال في إسرائيل من يراهن على قدرة إسرائيل على استغلال فرصة "حالة الخنق التي تعيشها حماس" لصالح ابتزازها فيما يتعلق بربط انفراجة كبيرة وحقيقية في القطاع باتفاق يشمل تهدئة طويلة الأمد وبشروط أمنية جائرة وبصفقة تبادل أسرى، أي اتفاق رزمة واحدة، وهو أمر سترفضه حماس، لكن ذلك لا يمنع اسرائيل من مطالبة قنوات الاتصال ببحثه مع حركة حماس.
في هذه الأثناء؛ فإن إسرائيل والمجتمع الدولي أصبحا أكثر قلقًا من انفجار الهدنة الهشة، ويبذلان جهودًا كبيرة لاحتواء أي تصعيد، سواء عبر رسائل التهدئة أو الانفتاح الدولي على القطاع، وإشاعة أجواء الأمل، والبحث الجدي عن بدائل تسمح بتجاوز فيتو السلطة على إعادة الإعمار عن طريق المؤسسات الدولية ومشاركة القطاع الخاص، وهو ما تبحثه الوفود الدولية التي تتواتر على زيارة القطاع في الأسابيع الأخيرة.
ففي الآونة الأخيرة تشهد الأوضاع المعيشية للقطاع اهتمامًا دوليًا غير مسبوق، حتى ان أوباما اعتبرها ذات أولوية من بين قضايا الصراع الفلسطيني الإسرائيلي خلال العام، مبادرات كثيرة وأفكار تروج، وقنوات اتصال متعددة تحاول نقل الأفكار أو التوسط أو حتى البدء بمبادرات جزئية مستقلة، وهو أمر مرحب به، لكن الخشية ان يكون الدافع الأساسي لمثل هذا الحراك هو التعويض عن إهمال القضية السياسية، وهي قضية التحرر من الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية.
من حق الفلسطينيين إبداء خشيتهم من أن هذا الحراك المحق والمستحق على المجتمع الدولي تجاه غزة – المظلومة والمكلومة والمحاصرة والمستنزفة والمدمرة بفعل العدوان وبفعل صمتهم وتواطؤهم – قد يراد به باطل، يتمثل باستقامة المجتمع الدولي مع الإرادة الإسرائيلية، والاستسلام للرفض الاسرائيلي والتعنت فيما يتعلق بالاستيطان والاحتلال وقضية تحرر الشعب الفلسطيني، نعم من حقنا إبداء هذه الخشية نظرًا لمعرفتنا وتجربتنا مع سياسات وتوجهات المجتمع الدولي الذي يتهرب دومًا من الصدام مع السياسات الاسرائيلية ويكتفي ببيانات الانتقاد والادانة في أحسن الأحوال ويستبعد من قاموسه مفاهيم العقوبات والضغوط، وهو اليوم، إذ يبدي استسلامًا أو تفهمًا صامتًا لسياسات نتنياهو ويرحب بأقوال نتنياهو الجوفاء عن السلام، لا يجد أمامه خيارًا سوى التحرك على جبهة الأوضاع المعيشية، ويتناسى عمدًا مسؤولية المجرم الذي قتل ودمر وتسبب بوصول القطاع الى حافة الكارثة، وبدلًا عن معاقبة المجرم وإدانته ومحاكمته يسمح له ان يكون جزءًا من آليات وأدوات ومنظومة المساعدة الإنسانية للقطاع.
إن إنشاء بدائل تتجاوز السلطة لإعادة إعمار غزة قد يكون له أثر ايجابي مباشر وسريع على مستوى انفراجة الظروف الانسانية والاقتصادية في القطاع، ولكنه من جهة أخرى سينشئ ظروفًا تساعد على تعزيز الانقسام وتفهم وقبول دولي بوجود كيانات سياسية متعددة للفلسطينيين، بداية بحكم الأمر الواقع ولاحقًا بحكم التاريخ والجغرافيا.