فرض تطور الأحداث نمطاً احتجاجياً مدنيّاً شعبياَ في القدس غير متوقع، ولا يخطر حقاً بالبال، وهو يمزج بين المواجهة الشخصية مع الاحتلال، والنمط السلبي الاحتجاجي القائم على الامتناع عن شيء ما (الصلاة داخل المسجد الأقصى)، وقدّم المقدسيون بذلك القاعدة التي يمكن أن تتشكل على أساسها حركة أو موجة مقاومة، تنقذ الوضع الفلسطيني، تتشكل من أريعة أضلاع، وتبدأ بواقع القدس تحديداً، والقضية الفلسطينية عموماً.
انقضت سبعة أشهر على تولي دونالد ترامب الرئاسة في الولايات المتحدة الأميركية، وستة أشهر على انعقاد مؤتمر باريس للسلام، وعملياً لا يوجد على الأرض اهتمام بالشأن الفلسطيني سوى ما بات معهوداً منذ سنوات طويلة من لقاءات وأحاديث وزيارات متفرقة دون معنى حقيقي بشأن التسوية والسلام.
ما فعله شباب عائلة الجبارين في المسجد الأقصى يوم الجمعة، 14 الفائت، هو نتاج حالة انتظار لسنوات عدة، قام عبرها الإسرائيليون بعمليات تغيير في واقع المسجد، والمضي في خطط التقسيم المكاني والزماني، دون قدرة الجانب الرسمي العربي على فعل شيء، سوى الإدانة والرفض اللفظي وبعض قرارات اليونسكو، فيما على الأرض كل شيء يسير لصالح حفنة مستوطنين وسياسيين صهاينة، يغيرون الواقع. كان الرد الإسرائيلي، دون أي مبالاة بالحكومات العربية، خصوصاً أصحاب العلاقة المباشرة، بهدف استغلال الحدث لفرض المزيد من الأمر الواقع، وبالفعل انتقدت أصوات فلسطينية عملية الجبارين، باعتبارها تقدم مسوّغا لردود فعل وسياسات إسرائيلية، لدرجة تلميح البعض أنّ هذه العملية مصلحة إسرائيلية. ولكن كان للمقدسيين رأي آخر مفاده أنّهم أيضاً فاض بهم، كما فاض بشباب الجبّارين.
بالتأكيد أنّ الغضب المقدسي لا يقتصر على البوابات الالكترونية (هناك بوابات بالفعل في بعض أحياء وأزقة القدس). وجاء نمط الاحتجاج مميزا وغير معهود، يمكن تلخيصه بالصلاة في كل مكان في القدس، وينتظم في الصلاة وصفوفها متدينون وغير متدينين، والمسيحي والمسلم المقدسي جنباً إلى جنب، دليلاً على أنّ الأمر هو انتفاضة ضد مجمل السياسات الصهيونية.
أهم ما تعبر عنه احتجاجات المقدسيين، أنّهم هم من يملك القدس الشرقية، ومن يقرر إيقاع الحياة فيها، عندما يصل غضبهم وإحباطهم حداً معيناً، وأنهم يعودون إلى الشارع، الآن.
لتفادي حالة الإهمال الدولي والعربي للتوصل لحل فلسطيني هناك استراتيجية رباعية الأضلاع يمكن تبنيها في اللحظة الراهنة، أو بالأحرى أن المقدسيين يقدمون الضلع الأول والأهم والأصعب، ويمكن للقيادات والفصائل الفلسطينية استكمالها.
الضلع الأول هو المقاومة الشعبية الانتفاضية، التي "أبدع" المقدسيون شكلا جديداً لها، يستحق إبرازه وتسليط الضوء عليه، باعتباره واحدا من أشكال "المقاومة السلبية" (الامتناعية)، ونوعاً من "العصيان المدني"، الذي يمكن أن تلحق به بسرعة أنماط أخرى سبق تجريبها، ولكن دون زخم كافٍ، بدءا من مقاطعة البضائع الإسرائيلية، وصولا للمسيرات والتظاهرات.
الضلع الثاني، هناك إقرار رسمي فلسطيني به، والجميع ينتظر التطبيق العملي له، وهو تغيير طبيعة العلاقة التعاونية والتنسيق مع الجانب الإسرائيلي، وهو ما عبّر الرئيس الفلسطيني عنه بإعلان "تجميد الاتصالات" على كافة المستويات مع الجانب الإسرائيلي، وهذا الضلع إذا ما شوهدت تطبيقاته العملية على الأرض لا يقل أهمية عن الضلع الأول. ومع قدوم المسؤولين الأميركيين لاحتواء الوضع، يصبح لمثل هذا القرار وقع أكبر، يمكن تبريره بالغضب الشعبي، وفقدان السيطرة، وحالة عدم الفعالية المتتالية في المواقف الأميركية والدولية.
الضلع الثالث، هو ترتيب البيت الداخلي، وبعيداً عن تسجيل "فتح" و"حماس" نقاطا ضد بعضهما على وقع انتفاضة الأقصى الحالية، يمكن الاجتماع لمناقشة الحدث الراهن، وهذا يوجه رسالة أنّ السياسات الإسرائيلية في القدس تأتي بنتائج عكسية أخرى، وأن سياسة فرض الأمر الواقع الصهيونية لها تداعيات واسعة.
الضلع الرابع، هو التحرك العربي، ولا شك أنّ هناك حتى الآن تحركا شعبيا واعدا في دول عدة، وهذا أيضاً يحتاج لتصعيده واستثماره في توجيه رسالة للإسرائيليين والعالم، بعدم توقع موت أو سبات الشارع العربي، وضرورة أن توضع القضية على خريطة الاهتمام الرسمي مثل القضية القطرية.
يقدم المقدسيّون فرصة ذهبية لتحريك ملف القدس خصوصاً والقضية الفلسطينية عموماً، يمكن للأردن والقيادة الفلسطينية استغلالها لفرض وقف السياسات الإسرائيلية وإعادة الاهتمام الحقيقي عالميا وعربياً بالقضية الفلسطينية.
عن الغد الأردنية