صدرت سرديّة "اللفتاوية" للكاتب المقدسي جميل السلحوت عام 2017 عن دار الجندي للنشر والتوزيع في القدس، وتقع السردية الموجّهة لليافعين والتي صممت غلافها رشا السرميطي ويحمل لوحة للفنان محمد نصر الله في 64 صفحة من الحجم المتوسط.
قد يُختزل تاريخ وطن وقرية وعائلة في شخص امرأة عمل الزمن في وجهها حتى علته التجاعيد، وفي جسمها حتّى نحل ولم تعد تستطع القيام أو القعود، لكنّ روحها تتّقد بالعطاء، وقلبها يفيض بالحبّ والوفاء، وثوبها المطرّز يختزل في عروقه تاريخ وطن ضاربة جذوره في أعماق التّاريخ. هذه المرأة التي قد لا نلقي لها بالا، أو قد تساء معاملتها ساعة عجزها، أو قد يُنظر إليها باستخفاف، لهي بحقّ أغنى من كتب التّاريخ، تنطق بالحكمة، وتفيض بالحبّ والرّحمة، القرب منها مغنم، والإحسان إليها برّ؛ فهي منبع العطاء، فيها أصالة تراب الوطن وعذوبة مائه.
يجسّد الكاتب في هذه السرديّة الموجّه للأطفال اليافعين، شخصيّة امرأة فلسطينيّة من قرية لفتا، عاصرت النكبة في شبابها، ثمّ أنشأت أسرة في لجوئها، صابرة على ضيم الغربة وذلّ الشّتات، ثمّ أصبحت وحيدة بعد موت زوجها وتفرّق أبنائها من حولها، لكنّها ما زالت تحمل في قلبها الحبّ والعطاء لعائلتها، وتتشبّث ببقايا ذكريات من قريتها، وتتفانى في حبّ أبنائها وأحفادها وحبّ القدس ومسجدها الأقصى. ويستغلّ الكاتب هذه الشّخصيّة ليعطي الدروس للأطفال اليانعين ويجعلهم يستخلصون العبر، في ثوب سرديّ ممتع ومشوّق، وبلغة تناسب سنّهم وأحداث اجتماعيّة تتكرّر أمام أعينهم في حياتهم اليوميّة، لكنّه يلفت انتباههم إلى ما وراء هذه الأحداث، وإلى العلاقات الاجتماعيّة المتشابكة والتي قد تؤدّي إلى سوء معاملة الوالدين أو التّقصير بحقهما.
جوهر هذه القصّة هو برّ الوالدين والإحسان إليهما، خاصّة في كبرهما وضعفهما. يصف الكاتب شعور المرأة التي يموت عنها زوجها وتجد نفسها وحيدة غير مرغوب بها من أبنائها، الذين أذبلت فتيل عمرها من أجلهم، تسهر الليالي الطّوال تطبّبهم وتعتني بهم وهي ترجو لهم الحياة، بينما يتلهّى عنها بعضهم عندما تصبح بحاجته، أو يخدمها وهو يتمنّى لها الموت والراحة من العناء.
ويبيّن الكاتب، لقرّائه الأطفال، اختلاف طبائع البشر ونظرتهم للأشياء، من خلال المواقف المختلفة لزوجات أبناء اللفتاويّة تجاهها، ثمّ ينتصر لعنصر الخير في كلّ منهن، ويرسم الصّورة الحسنة التي يجب أن تكون لهؤلاء النّسوة، وهنّ في نهاية القصّة يتسابقن لخدمة المرأة العجوز وتقديم العون لها. وأحداث هذه القصة هي صورة واقعيّة لما يحدث في كثير من العائلات، قد يراه الأطفال بأعينهم في حياتهم اليوميّة، لكن الكاتب يصوغه بأسلوب أدبيّ ممتع ويلفت نظرهم إلى مواطن العبرة فيه.
ويشير الكاتب إلى كثير من عادات وتّقاليد العائلات الفلسطينيّة في القدس وقراها قديما وحديثا، فيذكر عادات الأعراس وبعض الأكلات التراثيّة كالمفتول، ويعرّف الناشئة بها، ويذكر العديد من الأمثال والأقوال الشعبيّة. وكذلك يبيّن الكاتب ارتباط المقدسيّين قديما وحديثا بالمسجد الأقصى المبارك، كونه جزء من حياتهم اليوميّة، وارتباطهم العقديّ والوجدانيّ به، ويلفت النّظر إلى المخاطر التي تحيط به من الاحتلال الصهيونيّ، واعتداء المحتّل الهمجيّ على الأطفال، وعدم رحمته بالكبار. ويتحدث الكاتب خلال أحداث القصّة عن تاريخ قرية لفتا وكارثة تهجيرها.
تتمسّك اللفتاويّة بذكريات بلدتها لفتا التي هجّرها الاحتلال في العام 1948، وتحتفظ بمفتاح بيتها مثلها مثل كلّ اللاجئين الذين ينتظرون العودة إلى الوطن ويزداد حبّهم وتمسّكهم به كلّما مرّت السنون، ولا تتخلّى عن هذا المفتاح إلا لتنقله إلى أحفادها، وتنقل إليهم حبّ الأرض والإصرار على العودة، لتنتقل إلى الآخرة وهي قريرة العيْن وقد رأت برّ أبنائها بها، ثمّ رأت فيهم روح المقاومة والأمل بالعودة إلى الوطن السليب.