دروس وعبر كثيرة يمكن تعلمها من احداث الاسبوعين الماضيين، ابتداءً من العملية العسكرية عند باب الاسباط على مدخل المسجد الاقصى في القدس، وفي باحاته ايضا، صباح يوم الجمعة في الرابع عشر من هذا الشهر؛ وانتهاءً بالتراجع الكامل لحكومة بنيامين نتنياهو اليمينية العنصرية، فجر يوم امس الخميس السابع والعشرين من تموز/يوليو الحالي، عن كل ما اتخذته من اجراءات تخل بما كان عليه الوضع في المسجد الاقصى ومجمل الحرم القدسي، وخاصة في ما يخص قضايا السيادة على الحرم، منذ احتلال اسرائيل للقدس في حرب حزيران قبل خمسين سنة؛ ومرورا بكل ما شهدته ايام هذين الاسبوعين من مواجهات ادت الى سقوط اربعة شهداء (واحد منهم ما زال في المستشفى في حالة موت سريري)، واصابة ما يقارب الألف متظاهر فلسطيني في القدس وعدد من مدن وقرى ومخيمات الضفة الغربية، وعملية مستعمرة حلاميش التي قُتل فيها ثلاثة مستعمرين/مستوطنين، واصيب فيها الشاب الفلسطيني المهاجم بجراح متوسطة، ثم جاءت عملية قتل حارس السفارة الاسرائيلية في عمان لمواطنين اردنيين، لتزيد الوضع المعقد تعقيدا.
اربعة عشر يوما مشبعة بالدروس والعِبَر، كشفت حقائق جديدة، وبينت زيف ادعاءات، تسابق كثيرون في محاولة ترسيخها في عقول الفلسطينيين، لاحباطهم وتيئيسهم، وصولا الى دفعهم للركون والاستسلام للواقع الذي تسعى اسرائيل الى تأبيده. ويمكن، في هذه المحطة التي وصلها قطار احداث الاسبوعين الماضيين، تسجيل الأهم بين تلك الدروس والعبر والحقائق الثابتة والمستجدة على النحو التالي:
ـ قضية فلسطين ما زالت، كما كانت عليه منذ بدئها، قضية دولية بامتياز، تحتل درجة عالية جدا في سُلّم الاهتمامات العالمية، ولأي حدث فيها، (سلبيا كان ام ايجابيا، هزيمة او انتصارا)، اصداء عالمية عالية، تتسبب في اعادة الحسابات، واعادة التفكير في كل ما تم وضعه لها من مخططات وبرامج و»خرائط طريق».
ـ تماسك الفلسطينيين، والتكامل بين اساليب النضال الفلسطيني، بما يتناسب مع كل موقع وساحة نضال، واستكمال ذلك بموقف سياسي عملي علني واضح، تقره القيادة الشرعية الفلسطينية، يتماشى مع قدرات الشارع الفلسطيني وطموحاته، هو المفتاح الذهبي لتحقيق انجازات فلسطينية عملية ملموسة.
ـ التنسيق الكامل مع الدول العربية في المشرق العربي والمغرب العربي، بعيدا عن الخلافات والصراعات العربية- العربية، وتعزيز ذلك بالتنسيق مع ما امكن من دول العالم الاسلامي، هو عنصر اساسي في أي عمل فلسطيني جدي يتطلع الى تحقيق انجازات ومكاسب تحمي المصالح الفلسطينية العليا.
ـ التواصل مع العالم ومؤسساته الدولية وقواه ودوله الفاعلة، والتحدث بلغة العصر، ووضع المطالب الفلسطينية المشروعة القابلة للتحقيق، على الاجندة الدولية، يشكل مدماكا اساسيا في البيت الفلسطيني الذي نسعى لاعادة بنائه وترميمه.
اما على الصعيد الاسرائيلي، فان احداث الاسبوعين الماضيين، قد افادتنا دروسا يجدر بنا الوقوف بجدية لاستخلاص العِبَر منها، ولعل الابرز بينها:
ـ اسرائيل قابلة للهزيمة، ليست «الدولة التي لا تُقهر»، وليس الجيش الاسرائيلي «جيشا لا يُقهر»، وليس الموساد الاسرائيلي «المؤسسة الامنية التي لا تقهر». ثبت ذلك، بخصوص الجيش الاسرائيلي في معركة الكرامة ، (21.3.1968)، وفي حرب الإستنزاف، وفي حرب تشرين/اكتوبر 1973، وفي الانسحاب الذليل من جنوب لبنان عام 2000، وانهزمت اسرائيل كدولة في الانتفاضة الاولى، وانهزمت كدولة ايضا في مواجهة الانتفاضة الفلسطينية الثالثة الحالية، (من قال ان اهمية الانتفاضة تقتصر فقط على عنصر مداها الزمني، فانتفاضة عاقلة مبادرة عمرها اسبوعان فقط، تمكنت من تركيع اسرائيل وخنوعها وانسحابها وذيلها بين رجليها).
ـ ليس كل ما تقوله اسرائيل، وما يؤكد عليه ساستها وقادتها هو ما سيكون، وهو القرار الذي لا رجعة فيه: ابتداء من بن غوريون وتباهيه بعد العدوان الثلاثي على مصر سنة 1956 واحتلال قطاع غزة وشبه جزيرة سيناء، بأن «مملكة اسرائيل تعود الى الواقع»؛ ومرورا بموشي ديان و»شرم الشيخ بدون سلام خير من سلام بدون شرم الشيخ»؛ ووصولا الى قانون ضم الجولان لاسرائيل بقانون في الكنيست، ثم، (دون الغاء القانون)، استئناف المفاوضات بشأن اعادته الى السيادة السورية مرات ومرات، بلغ حجم الاختلاف في بعضها ليصبح قضية خط الشاطئ الشرقي لبحيرة طبريا ام خمسين مترا فقط الى الشرق من خط شاطئ البحيرة؛ وانتهاء بما نشهده اليوم من تراجع اسرائيلي واضح بخصوص الاجراءات والسيادة في الحرم القدسي وبواباته.
ـ نتنياهو قابل للكسر والاندحار. عندما هدد الزعيم الفلسطيني الخالد، ابو عمار، بالخروج من فلسطين واللجوء الى مصر، عام 1997، جرّاء تعنت حكومة نتنياهو في الانسحاب من مدينة الخليل، غادر الملك الاردني السابق، الحسين بن طلال، مستشفاه في امريكا، ثم انتقل من عمان الى تل ابيب وبعدها الى غزة، والتقى رئيس الحكومة الاسرائيلية في حينه، بنيامين نتنياهو، والرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، .. وانسحبت اسرائيل، ليس من ثلاثة ارباع الخليل فقط، بل انسحبت، اضافة الى ذلك، من 13% من الاراضي غير المأهولة في الضفة الغربية.
ـ هذا لا يعني ان ننام على فراش من حرير وريش نعام. اسرائيل نتنياهو وحكومته اكثر عنصرية واكثر خُبثا من ان يسمح لنا عقل وادراك سليم ان نثق بها او بما تُقسم انها ملتزمة به. هي الأكثر سوءً بين حكومات اسرائيل منذ النكبة عام 1948 وحتى الآن. إذ حتى في اثناء انشغال الفلسطينيين والاسرائيليين والعرب والمسلمين وعواصم الدول الفاعلة في العالم، اضافة الى الهيئات والمؤسسات الدولية، في الخروقات التي انتهزت اسرائيل الفرصة لارتكابها، في ظل أزمة الاقصى والحرم، قام نحو مئة وعشرين مستوطنا عنصريا بالاستيلاء على مبنى في البلدة القديمة في الخليل بحجة شرائه من اصحابه بموجب وثائق تحقق الاجهزة القضائية الاسرائيلية في مسألة تزويرها من عدمه، امر نتنياهو الجيش الاسرائيلي بعدم التعرض لهم وطردهم، فاستغل جيش الاستعمار الاسرائيلي ذلك ليفرض طوقا عسكريا على المنطقة، معلنا ان المنطقة بكاملها منطقة عسكرية مغلقة، الامر الذي يعني منع المصلّين المسلمين من الوصول والصلاة في الحرم الابراهيمي. اضافة الى ذلك، وبتشجيع من نتنياهو بدأ الكنيست (البرلمان الاسرائيلي)، في سن قانونين عنصريين جديدين، اولهما قانون يشترط غالبة الثلثين لاجراء أي «تنازل» عن أي اجزاء من «القدس الموحَّدة» تحت السيطرة الاسرائيلية، وثانيهما قانون «القومية» الذي يشرّع ان اسرائيل «دولة يهودية ديمقراطية»، الامر الذي يعني تقدم «اليهودية» على «الديمقراطية»، واذا تصادم المعنيان فالاولوية لليهودية. قانون عنصري بامتياز.
في ظل ما هو حاصل في اسرائيل، من تكاثر وتتابع ملفات فساد تطال نتنياهو وعائلته واكثر الناس قربا له عائليا ومهنيا، يظهر ان نتنياهو يحاول التهرب مما هو قائم ومتورط فيه من قضايا فساد وسوء ائتمان، بافتعال معارك جانبية، تشغل الرأي العام الاسرائيلي، وتحرف تركيزه على قضايا فساده، الى قضايا فرعية ثانوية.
ـ في اول استطلاع رأي في اسرائيل، فان 77 في المئة من الإسرائيليين المستطلعة آراؤهم، يعتبرون ان حكومة بنيامين نتنياهو اليمينية العنصرية، قد خسرت في المواجهة الفلسطينية العربية اثر وبسبب «عملية الأقصى» يوم 14.7.2017، في حين ان 17 في المئة يعتبرون ان تراجع حكومة نتنياهو عن قضيتي البوابات الإلكترونية وتفكيكها، وتفكيك نظام كاميرات المراقبة عند مداخل المسجد الأقصى ليست هزيمة، ولم يستطع 6 في المئة تحديد رأيهم.
ما زال امامنا طريق طويل لنقطعه. وما زال في تجربة واحداث الاسبوعين دروسا وعِبَرا كثيرة لتعلمها. ولهذا الكلام تابع في مقالات ومعالجات لاحقة.
عن القدس العربي