لا أدري، هل بقي مكتب م.ت.ف بدمشق في مكانه الذي كان فيه العام 1964: شقة أرضية في عمارة آخر شارع الإنشاءات. بَعُد عهدي بكِ يا دمشق!
هل مصادفة أنه كانت بينه وبين مكتب مقابل لـ "الهيئة العربية العليا لفلسطين" جزيرة شارع، والمكتبان شقة أرضية في عمارتين، خلف البنك المركزي السوري المطلّ على ساحة "السبع بحرات".
في ذلك المكتب القديم، التقى المرحوم أحمد الشقيري بجمع من الفلسطينيين، بعد قرار قمة عربية بتشكيل منظمة التحرير، بشعاراتها التي لا تزال: وحدة وطنية. تعبئة قومية. تحرير.
رَوَتْ لي شقيقتي ما الذي جرى في ذلك اللقاء، آنذاك؛ ما أن تحدث الشقيري عن تعبئة وتنظيم الشعب خلف المنظمة، حتى رفعت بعض النساء "الصرامي" في وجهه، بدعوى أن تعبئة وتنظيم الفلسطينيين أمر يتعارض وقومية المعركة للتحرير بقيادة جمال عبد الناصر!
بموت الحاج أمين الحسيني، أُغلق مكتب الهيئة العربية العليا، وتوقفت مطبوعته الصقيلة "فلسطين" وبعد سنوات كنتُ في قبرص، وكلّفني محمود درويش بكتابة "بورتريه" للحاج أمين، فكتبت صفحتين.. ثم اعتذرت!
رَوَتْ لي شقيقتي كيف كانت البداية، وبعد أوسلو رَوَى لي صديقي كيف سرى ليلاً في غور الشونة الجنوبية، التماساً لأنوار أريحا، التي ترعرع في مخيماتها، بعد أن لجأت عائلته إليها من المسمية بعد النكبة.
تعثّر أحمد بشيء، والشيء كان قبراً، والقبر كان لمؤسس م.ت.ف أحمد الشقيري، في مقبرة فاتح فلسطين: أبو عبيدة عامر بن الجرّاح.
كما سلّمت "الهيئة العربية العليا" الراية الفلسطينية إلى منظمة التحرير الفلسطينية، سلّم أحمد الشقيري راية المنظمة ليحيى حمودة، ثم ياسر عرفات.
كما تعرفون، كان عرفات يحرص على الإشادة بالحاج أمين، وبأحمد الشقيري.. أولاً، بشعبه "الأحسن من قياداته السابقة واللاحقة".
لكن، وكما تعرفون، لم يمنح هذا الشعب تأييده غير المشروط لزعاماته "السابقة واللاحقة"، وتحقق نوع من الإجماع على أن المنظمة هي "الممثل الشرعي والوحيد" لكن لم يكن إجماع خلف قيادة قائد المنظمة، ثم قائد المنظمة والسلطة والدولة المعلنة.
للرئيس المؤسِّس للمنظمة قبر متواضع على حدود فلسطين، وللرئيس المؤسِّس للسلطة ضريحه في البلاد، والذي كان يقول: سيرفع شبل أعلام فلسطين على أسوار القدس ومآذن القدس، غاب قبل أن يرى جموع الهبّة المقدسية الجديدة، وأعلام فلسطين في الحرم القدسي وأسواره.
جيد، هذا شعب تصعب قيادته، سواء قبل النكبة أو ما بعدها، قبل المنظمة وبعدها، بعد أول سلطة وطنية، وقبل أول دولة فلسطينية مستقلة.
الخلاف على قيادة الرئيس الرابع للمنظمة والسلطة سابق على هبّة الأقصى المنتصرة، والبعض يُنكر عليه فضله ودوره في إسنادها.. وسياسته.
حسناً، راقبوا صف طيور مهاجرة، هناك طير ـ قائد، فإن انعطف السرب صار له قائد آخر، وما أكثر منعطفات هذه المسيرة الفلسطينية. مهما كانت ملحمة هذه المسيرة، ومنعطفاتها، فلا بد لكل شعب من قائد، قد يتهمه بعض شعبه حتى بالخيانة ظلماً وتجنِّياً.
الشعوب الحية ليست قطيعاً من الخراف يقودها "كبش"، ولا بالذات الشعوب التي تقاتل لتحقيق حريتها، فإن كان البعض مع القائد في مرحلة من هجرة "رف طيور" قيل إنهم "إمَّعَة" أو بالتعبير البلدي "سَحِّيجْ".
على صفحات "الفيسبوك" وسواها، يدور سجال شديد بين المؤيدين والمعارضين للقيادة الحالية. أعجبني منطق اثنين من "السحِّيجة" وهما فتحاويان عائدان، ومتقاعدان، ووجهة نظر الطبيب النفسي، والمقاتل السابق في ملحمة بيروت 1982، فاضل عاشور، الذي أنهى عضويته في "فتح" بعد المؤتمر السابع، ووجهة نظره باختصار: قائد لا يخلو من الانتقاد أحسن حالاً من شعب بلا قائد.. كما كانت المرحلة الفلسطينية من النكبة إلى الثورة والمنظمة، فإذا قال البعض "أنت سَحِّيجْ" قلت: نعم أنا كذلك.. من أنتم؟
عماد الأصفر سأل، بعد تقاعده مسؤولاً في هيئة الإذاعة والتلفزيون سأل معارضاً شديداً للرئيس الرابع: ماذا عليه أن يفعل، فتحدث كأنه مسطرة مستقيمة على القائد أن يكون مثلها.
هو مع قيادة أبو مازن، ولكن له انتقادين عليه: الأول. لماذا لا يعيّن نائباً له، وهذا انتقاد مشروع، والثاني: لماذا لا يوجد تداول لرئاسة السلطة، ولكن "التداول" يتطلب انتخابات وأسباب تعطيلها معروفة بعد العام 2007.
يمكن القول مع الإمام الشافعي: "وعين الرِّضا عن كلِّ عيبٍ كليلة/ لكن عين السُّخْطِ تُبدي المساويا" أو يمكن، مع خلاف الإسرائيليين المزمن على حكوماتهم ورؤسائها"، وخلاف المؤيدين للصهيونية واليهودية والإسرائيلية مع نقّادها، الإشارة إلى اتهام هؤلاء بـ "كراهية الذات".
بعض الفلسطينيين كره الميثاق الوطني لأن الميثاق القومي للمنظمة كان أفضل، والبعض كره الميثاق المرحلي (النقاط العشر) لأن الميثاق الوطني كان أحسن. والبعض كره الدولة المستقلة لأن التحرير الكامل والعودة أحسن.
إذا كانت "كراهية الذات" مرضاً يهودياً، فإن الدولة القائمة بالاحتلال، أصابت الشعب تحت احتلالها بشيء من العدوى.
من قال: الشعوب المقهورة قد تقلّد قاهرها أحياناً، وهذا جزء من الالتباس بين الجلاد والضحية.
ليس اليهود "الشعب المختار" وإن لم يرضَ عن قياداته. ليس الشعب الفلسطيني أحسن شعب عربي وإن لم تعجبه قياداته.
كم باب أو كتاب لسيكولوجية الإنسان (والشعب) المقهور ليس دائماً أن الشعوب على حق، وليس دائماً أن قياداتها على خطأ.