التغول على قوت المواطن

thumbgen (13).jpg
حجم الخط

د. أسامه الفرا

بعد أن سرد القاضي فرانك كابريو على المتهمة "اندريا" لائحة الاتهام المتعلقة بمخالفات سير والتي تبلغ قيمتها أربعمائة دولار، بدأت السيدة في البكاء وهي تشرح للقاضي الظروف المادية الصعبة التي تمر بها، وأنها لا تعلم كيف يمكن لها أن تجمع المبلغ المطلوب سيما وأنها تحاول أن تسدد قيمة جنازة ابنها الذي قتل منذ عام، تنهد القاضي كأنه يحاول تفريغ الحزن الذي أصابه، قبل أن يؤكد لها بأنه سيأخذ بعين الاعتبار الظروف التي تمر بها ومصلحة المدينة التي يمثلها في حكمه، فقرر القاضي أن يخفض الغرامات إلى خمسين دولاراً، وسأل المتهمة عن الفترة الزمنية التي تحتاجها لتوفير المبلغ، فأجابته أنها تمتلك في حقيبتها هذا المبلغ، فسألها إن كان ذلك يجعلها بلا أي مال؟، فأجابته بأنه سيتبقى معها خمسة دولارات، فما كان من القاضي إلا أن قال لها لن آخذ الغرامة منك لأتركك لا تملكين سوى خمسة دولارات، سوف اسقط عنك الغرامة كلها.

تناقلت مواقع التواصل الاجتماعي الفيديو الذي يرصد الحوار الذي دار بين القاضي والسيدة اندريا في قاعة محكمة احدى البلديات التي تتبع ولاية رود آيلاند، ومنحه روادها لقب "قاضي الرحمة" سيما وأن القاضي ابتدع طريقة اتسمت بروح الدعابة والتعاطف مع المتهمين، حيث استعان في بعضها بإبن المتهم الصغير ليحدد إن كان والده مذنب أم لا و قيمة الغرامة التي يجب أن يدفعها،

ما يستوقفنا في حكاية قاضي الرحمة أنه لا يعمل طبقاً لنصوص القانون المتحجرة بل يستحضر روح القانون ليحقق به العدالة الممكنة، وأنه قاضي محكمة البلدية ينظر في الجنح المتعلقة بمخالفات السير والقضايا الصغيرة المتعلقة بأنظمة البلدية، وأن الغرامات التي يفرضها على الماثلين أمامه تشكل مصدر دخل لخزينة البلدية، وبالتالي فإن تعاطفه معهم تقلص مدخولات البلدية من الغرامات، رغم ذلك لم تلجأ البلدية للاستغناء عن خدماته، بل أنها مددت عملة لست مرات متتالية رغم أنه جاوز الثمانين، وفي تعقيب القاضي على أحكامه التي جعلت منه نجماً أكثر منه قاض أعرب عن إدراكه بحقيقة المواجهة بين قوة السلطة وقوة الفرد وأنه لا يقبل أن يمثل قوة السلطة مشدداً على أهمية روح القانون.

في الوقت الذي تتفاعل فيه أحكام قاضي الرحمة عبر وسائل التواصل الاجتماعي بترحيب واستحسان لما يقوم به، تتفاعل لدينا بالكثير من الحزن والألم قضية الخصومات على الرواتب والتقاعد "المبكر منه والإجباري" وترقين القيد ووقف الراتب دون أي مصوغ قانوني، فلم نعد نبحث عن روح القانون بقدر ما نحاول أن نمسك بتلابيب قانون داسته المراسيم، وشتان بين قوانين تسن لتوفير العدالة في المجتمع وقرارات للبطش وتوسيع رقعة الفقر، المصيبة أن المواطن هو من بات يلهث لإنفاذ القانون فيما السلطة القضائية التي لم تعد سلطة وتخلت عن مسؤوليتها في الدفاع عن القانون وتحولت إلى أداة تبطش بها السلطة التنفيذية.

ألم تدرك القيادة بعد بأن تغولها على قوت المواطن أفقدها الكثير من مكانتها، وأن استخدامها لقوة السلطة في استعراض عضلاتها على المواطن المنهكة قواه لا يجلب لها الاحترام، وأن المواطن المغلوب على أمره لم يعد قادراً على تجرع وهم التبرير، إن النرجسية التي يتم من خلالها التعامل مع غزة باتت مستفزة إلى الحد الذي بتنا نشعر بأن المواطنين لم يعودوا سواسية، ومن شأن ذلك أن يؤسس على الأقل لجدار من البغض والكراهية يصعب اقتلاعه، ويدفع بالمجتمع إلى شفا جرف من الانحدار الوطني.