قال: «سيل من الأشجار في دمي..»

حسن البطل.jpg
حجم الخط

تساذجتُ، صباح الأمس، على صديقي خالد جمعة، إذ سألته: من القائل: «قل للغياب نقصتَني..»، فضحك، ولما سألت: من القائل: «سيلٌ من الأشجار في دمي.. أتيتُ أتيتُ» فحار جواباً.
هو نفسه القائل: لتنقلب لغتي عليّ..» وعن لغة محمود درويش دردشنا حديثاً قصيراً لضيق الوقت.
لو أنني طوطمي لاتَّخذت الشجرة معبوداً لي، حتى قبل أن ينشدنا درويش: «الشجر العالي كان نساء/ كان لغة».
كان درويش قد نقد شعر صديق له، شاعر ومفكر، قال: فيه القليل من الماء.
في البحر ماء وفير، وفي لغة درويش الشعرية، تنقلب لغته عليه، و»على سلالاتي/ على الزمن العدو/ على زوال لا يزول» كما هو ينقلب عليها.
الشعر فيه بلاغة وجزالة وفخامة وحكمة.. وأيضاً تراكيب مفردات تتقدّم أو تتأخّر في الجملة الشعرية.
في رائعته: «حجر كنعاني في البحر الميت» يقول في مطلعها: و»لا باب يفتحه أمامي البحر.. قلت قصيدتي» ثم يُثني: «لا باب يغلقه عليّ البحر». بين الفتح والإغلاق»، وبين «أمامي» وبين «عليّ» سرّ من أسرار لغة درويش الشعرية.
لمقاربة لغته الشعرية في بلاغتها، لنأخذ مثالاً من عندي. ما الأكثر بلاغة في ثلاثة تراكيب لهذه الجملة: «أمامي بحر وورائي بحر» و»بحر أمامي وورائي بحر».. و»أمامي بحر وبحر ورائي» أظن أن التركيبة الثالثة للجملة أكثرها بلاغة. لماذا؟ كأنك مهجور على جزيرة جدّ صغيرة، عائمة بين بحرين.
لنذهب إلى الفلسفة القديمة، التي تختصر عناصر الحياة بثلاثة أركان: جماد (صخر). نبات (شجر). حيوان (بشر).
في السينما والروايات، يقولون لمن ينازع الروح: «تنفّس» ولولا الماء ما تنفّس النبات، ولولا النبات ما تنفّس الحيوان. الشجرة ملكة مملكة النبات. والإنسان ملك مملكة الحيوان، وللشاعر أن يقول: «سيلٌ من الأشجار في دمي.. أتيتُ أتيتُ»». لماذا؟ التنفُّس: شهيق وزفير. أكسجين وثاني أكسيد الكربون، ومن علامات قصور الرئة الثلاث: ضعف أكسجين الدم (المعدّل الطبيعي 94-98).
لذا للشاعر أن يقول، كذلك: «الشجر العالي كان نساء/ كان لغة» وتأنيث الشجرة كالنساء هو تأنيث للحياة. الشجرة تُثمر والنساء يثمرن، وأول لغة الطفل هي أول حرف [م] للرضاعة من ثدي الأم.
على وفرة وكثرة ما قرأت في تقريظ ونقد الشعر الدرويشي، لم أجد ضالّتي في مدحِ لغةِ درويش وتراكيب مفرداتها. بسيطة وعميقة.
في شعره وفرة من «الماء» والماء معجزة الطبيعة لفرادة عناصره في حالاته الثلاث: السائلة، الغازية، والصلبة. إذا تجمَّدَ ماء سائل في شقوق صخر، تمدَّدَ في حجمه، وفلَّقَ الصخر ليكون تربة يغشاها النبات والشجر.. وتتنفّس الحياة أكسجين الجو. البحر ماء و»البحر يرشدني إلى كلماتي الأولى لثدي المرأة الأولى».
في القصيدة ذاتها: «حجر كنعاني» استعارة جميلة لحياة الشعب الفلسطيني: «الأنبياء جميعهم أهلي، ولكن السماء بعيدة عن أرضها، وأنا بعيد عن كلامي» و»شجراً. غيابي كله شجر».
***
في حوار واحد  وأخير، أجراه مُحرِّرُو «فلسطين الثورة» ـ قبرص 1984 مع درويش، ووضعته وصورته على الغلاف قال: «وطن مؤقت في اللغة»، وأمّا في ثنايا «سين ـ جيم» فكان السؤال: «كيف يحتملك قلبك». كان الجواب: «سأقول لأول مرة إن قلبي قد يخذلني».
في زيارة لاحقة له، حيث كانت مجلته «الكرمل» تصدر عن «مؤسسة بيسان» رفيقة «فلسطين الثورة» كان درويش بالغ التوتر، قلت للمُصوِّر: خُذْ له صوراً، فقد يخذله (ويخذلنا) قلبه.
روى له سكرتير «الكرمل» سليم بركات، في مستشفى أمراض القلب ـ فيينا، بعد مغادرته الجزيرة، خوفي من قلبه عليه، فجافاني الشاعر سنتين ثم صالحني.
في رام الله، لما كان يزورنا الشاعر، كنا ندردش ثلاثتنا: هو وأكرم هنيّة وأنا.. حصل أن كنتُ مغادراً الجريدة، وهو قادم إليها. هَمَمْتُ بالنزول من السيارة، قبل أن يراني، لأقول له: «محمود.. الثالثة موّاتة».
الذي ألقى شعره في دمشق في حضرة ملعب كرة قدم ملآن، وقال قبلها: «طريق دمشق.. دمشق الطريق» ألقى أمام مُدَرَّجات قصر رام الله الثقافي «قل للغياب نقصتني/ وأنا جئت لأُكملك».
زرت بيت درويش في بيروت مرّتين برفقة زوجتي. حضرت في بيت أدونيس مرّات حفلة عيد ميلاده الذي يصادف ميلاد ابنة أدونيس «نينار». شهدت في بيتي البيروتي مباريات «شيش بيش» بين أدونيس ودرويش الذي كان «إرهابياً» ومنتصراً في اللعب، وهزمني مرّات في «المحبوسة».
في ختام دردشة في «الأيام» قلت له: «أُحبّ لعبة معك، قال: تفضّل. خجلت أن اقول: لا أعرف أين بيتك. لم أخجل عندما نالني بلسانه أقسى قدح في بيروت وقبرص، وخجلت عندما نالني أرقّ مدحٍ في رام الله. قال: «أفتح على أطراف النهار في {الأيام}، كما كنت أفتح على ناجي العلي في {السفير}».
***
خرج روائيون روس من «معطف غوغول» وخرج شعراء عرب من معطف السَيّاب، يوسف الخال، أدونيس، نزار قباني. الآن يخرج شعراء فلسطينيون وعرب من «معطف درويش».. من جزالة وبساطة وقوة تراكيب كلمات شعره.
على قبره: «أثر الفراشة لا يُرى/ أثر الفراشة لا يزول». لا يزول غيابه ولغة شعره، المليء بالماء، بالحياة.. و»لا تذكروا بعدنا إلاّ الحياة».
«السروة انكسرت» قال مرّة. سروة شعر درويش وسنديانته عصيتان على الانكسار.