أصبحت مدينة عرسال في شرق لبنان، على الحدود السورية، في السنة الاخيرة سجنا لنحو 40 الف مواطن لبناني وعدد آخر كهذا من اللاجئين السوريين الذين فروا إليها من المعارك في بلادهم. هذه المدينة الشهيرة بصناعة السجاد محوطة الآن من كل جوانبها بالقوات العسكرية. في الغرب يطل عليها جيش لبنان، اما في الشرق فتتواجد قوات الميليشيات السورية، بما فيها «جبهة النصرة» المتفرعة عن «القاعدة» وقوات «داعش». عرسال، التي معظم سكانها من السنة، كانت على مدى المعارك في سورية مركزا لوجستيا مهما للثوار، ولا سيما للجيش السوري الحر، الذي اقام فيها مستشفى طوارئ لجرحاه. كما كانت عرسال المنطقة اللبنانية الوحيدة التي اصطدم فيها الجيش اللبناني بقوات الثوار السوريين، في آب الماضي. وبعد معارك عنيدة أسر فيها نحو 25 جنديا لبنانيا، انسحبت الميليشيات الى اطراف المدينة، ولكنها لا تزال تحاصرها. وفي الايام الاخيرة اصبحت عرسال مركزا لخلاف حاد داخل لبنان، بين «حزب الله» والجيش اللبناني وسكان المدينة.
هدد زعيم «حزب الله»، حسن نصر الله، هذا الاسبوع، من انه اذا لم يحرر الجيش اللبناني عرسال، فإن منظمته ستفعل ذلك. وتحذر «كتلة المستقبل» بقيادة سعد الحريري، خصم نصر الله، وبعض اعضاء الحكومة، نصر الله من العمل في عرسال وذلك لأن الدفاع عن الاراضي اللبنانية هو من مسؤولية الجيش. ولكن هذا ليس خلافا على الصلاحيات بل تعبير عن الخوف من آثار دخول «حزب الله» الى المدينة على الوضع في لبنان.
ان احتلال «حزب الله» لمدينة سنية من شأنه ان يشعل من جديد حربا طائفية داخل لبنان المنشق بين المؤيدين لتدخل «حزب الله» في الحرب في سورية وبين من يتهمون المنظمة باستيراد الحرب الى داخل الاراضي اللبنانية. والتعبير عن هذا الخلاف هو تراشق الكلام القاسي بين وزير العدل، اشرف الريفي، رجل «كتلة المستقبل»، وبين النائب عن «حزب الله»، محمد رعد، والذي اقتبسته بتوسع وسائل الاعلام اللبنانية. «نعرف جيدا الجرائم التي ارتكبها حزبه، داخل لبنان او خارجه»، اتهم الريفي رعد، «انا واثق انك ستحاسب على كل جريمة ارتكبتها وتلك التي سترتكبها». اما رعد فلم يصمت. «يريد الريفي أن يدمر ما يسميه الدولة التي اقامها «حزب الله» بينما في الوقت ذاته اقام دولته الصغيرة في مدينة طرابلس». طرابلس، التي جاء منها الريفي، هي مدينة سنية في معظمها مع تجمع كبير من اللاجئين السنة والمواطنين المعارضين لـ»حزب الله».
ان الضغوط اللبنانية الداخلية التي يتعرض لها «حزب الله» تضاف الى الخسائر التي يصاب بها في المعارك في جبال القلمون، على الحدود السورية اللبنانية، من جانب جيش الفتح الذي تتجمع فيه مجموعة من الميليشيات بما فيها «جبهة النصرة». وحسب تقارير تصل من ايران، فثمة هناك عدم رضا من الشكل الذي يدير فيه نصر الله المعركة العسكرية، ومن انه لا يمكنه أن يخرج من مخبئه لزيارة القوات التي تقاتل ورفع معنوياتها. وحسب تلك التقارير، فقد طرحت فكرة استبداله بقائد آخر وتعيينه «مرشداً أعلى» لـ»حزب الله» ولكن دون صلاحيات قيادية في الميدان. بل ان ايران جمدت سلسلة تعيينات اراد نصر الله القيام بها في القيادة في جنوب لبنان وفي منطقة بعلبك في شرق لبنان الى أن يتفق على التعيينات الجديدة في قيادة المنظمة.
الى جانب هذا الخلاف اندلع خلاف داخلي بين نصر الله وبين نائبه نعيم قاسم، الذي يرى نفسه مرشحا لخلافة نصر الله، وهذا ايضا على خلفية التعيينات في المنظمة. من الصعب حصر عدد قتلى المنظمة في المعارك في سورية: تتراوح التقديرات بين بضع مئات ونحو 3 آلاف قتيل ونحو 4 آلاف جريح. يبدو أن الارقام الكبرى اقرب الى الحقيقة، وذلك لأن نصر الله يحاول، مؤخرا، تجنيد مقاتلين من كل من يتيسر. وهكذا، مثلا، فقد أقام في الاونة الاخيرة كتيبة مسيحية في المنظمة، يمولها ويسلحها؛ ويحاول تجنيد فلسطينيين من مخيمات اللاجئين للحرب في سورية، مقابل 400 دولار في الشهر، وشباب شيعة ليسوا اعضاء في المنظمة.
وفي الوقت ذاته تروي التقارير عن ضعف الانضباط في صفوف مقاتلي «حزب الله»، كسرقة السلاح من مخازن المنظمة وبيعه، وتحويل مكثف للاموال الى بنوك في اوروبا. في خطاب القاه نصر الله، هذا الاسبوع، بمناسبة يوم تحرير لبنان من الاحتلال الاسرائيلي، أوضح ان «التهديد علينا هو تهديد وجودي. امامنا ثلاثة خيارات. توسيع القتال والقتال اكثر مما قاتلنا في السنوات الاربع الماضية؛ الاستسلام والذبح؛ او التوزع في دول العالم مهانين، وننتقل من نكبة الى نكبة». ومع انه قال انه لا يدعو حاليا الى التجنيد العام، ولكن مثل هذه الدعوة قد تأتي قريبا.
لا تؤثر اقوال نصر الله اليائسة على قسم كبير من اللبنانيين، بمن فيهم الكثير من الشيعة، الذين يخشون من أن تدخل «حزب الله» في سورية سيجعل لبنان ميدان معركة. ما أغضب الشيعة ممن لا يؤيدونه كان ايضا الاهانة التي وجهها للزعماء الشيعة الذين يعارضون التدخل في سورية. فقد وصف هؤلاء على لسانه بأنهم «شيعة السفارة الأميركية» و»الخونة»، وألمح الى انهم يخدمون المصلحة الأميركية وليس المصلحة الوطنية. بعد وقت قصير من خطاب نصر الله، فتح حساب «تويتر» شعبي ساخر تحت عنوان «الى الامام نحو التجنيد العام»، غرد فيه مئات اللبنانيين عن نفورهم من دعوة نصر الله. وفي رسم نشر في الحساب يشبه نصر الله بعازف ناي يسير نحو البحر وفي اعقابه جراد على شكل جنوده، حيث يقودهم الى الموت غرقا.
بالنسبة لنصر الله هذه بالفعل حرب وجودية. فإذا سقط الاسد، ستنتقل سورية الى سيطرة ميليشيات الثوار والتوقع هو انه في هذه الحالة ستقع في سورية حرب أهلية متعددة الاطراف، مثل الحرب التي اندلعت في افغانستان بعد انتهاء الاحتلال السوفييتي. ولكن حتى لو بالمعجزة وجد حل سياسي للنظام في سورية، فلا خلاف في أنه سينصب نظاما جديدا يحاسب كل من تعاون مع الاسد، مثلما حصل في العراق بعد سقوط صدام حسين، وسيبقى «حزب الله» في حينه منقطعا دون ظهر عسكري ولوجستي. هذا هو التوقع الذي تخافه ايران. وفي قيادتها يجري الآن نقاش جاد في مسألة استمرار الدعم للاسد. علنيا، ايران لم تغير سياستها، وهي ستواصل منح النظام السوري المزيد من خطوط الائتمان التي تبقيه فوق سطح الماء. ولكن الاتفاق النووي مع ايران قد يحدث تغييرا في هذه السياسة، باتجاه انقاذ مكانتها ونفوذها في سورية. ايران قد تتنازل عن الاسد كي تضمن الا يتنكر لها أي نظام يقوم في سورية والا يقطعها عن سورية وعن لبنان.
كما ان ايران تفحص بتخوف الحلف الجديد بين السعودية وتركيا والذي يستهدف اسقاط الاسد الى جانب الصراع ضد «داعش». يبث هذا الحلف منذ الآن ريح اسناد قوية في اوساط الثوار، الذين أبدوا في الايام الاخيرة قدرة عسكرية مثيرة للانطباع في عدة جبهات. ايران، التي بعثت بالمدربين وبالمال الى الميليشيات الشيعية العاملة في العراق ضد «داعش»، وهكذا نصبت نفسها كحليف غير رسمي للولايات المتحدة والدول الاوروبية سيتعين عليها بعد التوقيع على الاتفاق ان تتخذ قرارات استراتيجية دراماتيكية. وهذه قد تأتي على حساب «حزب الله»، اذا لم تنجح المنظمة في أن تثبت في الزمن القريب القادم بأنها قادرة على أن تساعد الاسد في السيطرة على دولته أو على الاقل ان يقضي على الثوار في «المناطق» التي احتلوها. وهذا بالضبط ما يخشاه سكان عرسال وباقي مواطني لبنان.
عن «هآرتس»