يستحق البرلمان الأردني تحية وإشادة على النشاط والخطوات التي اتخذها إزاء فضح القوانين العنصرية التي يقرها الكنيست الإسرائيلي وتمر بهدوء تحت مستوى رادار انتباه أحد هذه الأوقات بسبب توالي الأزمات والانفجارات في المنطقة. وفق ما نقلت تقارير إخبارية فقد أرسل رئيس مجلس النواب عاطف الطراونة رسائل إلى رؤساء جمعيات برلمانية دولية في أوروبا وآسيا وأفريقيا والمتوسط رصد فيها إقرار الكنيست ما مجموعه 156 قانوناً ومشروعاً تمييزياً عنصرياً، تستهدف تكريس الوضع الاستيطاني في الضفة الغربية والقدس، وتعاقب الأسرى الفلسطينين والمتضامين الأجانب معهم فضلاً عن معاقبة المنظمات الحقوقية التي تتابع شؤونهم.
الخطوة الأردنية مهمة وفي وقتها، لكن يجب أن تتبعها خطوات وتتحول إلى حملة دولية متواصلة تهدف إلى كشف السياسات والقوانين العنصرية المُدهشة التي يتم اتخاذها من قبل حكومة تدعي الديموقراطية والتحضر، وفي زمن يُفترض فيه سيادة قيم المساواة والمدنية ودحر العنصريات بأنواعها، وما عاد فيه بالإمكان إخفاء أي شيء.
الشيء المُذهل الآن هو التسارع الكبير في ترجمة العنصريات السياسية والخطابية والدينية في إسرائيل إلى عنصرية قانونية وتشريعية تعكس سيطرة مزاج اليمين المتطرف وعنصرية خطاباته، ومن دون أن يكون لهذا التسارع رد فعل عالمي او حتى عربي يكبح جماحه. الخطابات العنصرية الإسرائيلية من قبل سياسيين ومسؤولين كبار في الحكومات المتعاقبة ضد الفلسطينين والعرب أكثر بكثير من أن تُرصد في مقالة واحدة. وهي تصريحات تثير حنق حتى العديد من اليهود التقدميين الذين يرصدونها في مواقعهم وكتاباتهم. واحد من هذه المواقع رصد خلال الفترة الأخيرة عينة من هذه التصريحات، والتي صدرت عن مسؤولين ووزراء في حكومة نتانياهو (وليس عن زعماء المستوطنين الأكثر عنصرية والذين قد تتملص إسرائيل من تصريحاتهم بزعم أنها لا تعبر عن رأي الحكومة). ونقرأ من هذه التصريحات ما يلي: موشيه يعلون نائب وزير الدفاع يصف الفلسطينين بالسرطان ويتوعد بأنه قد يستأصله إن فشل العلاج بالكيماوي، الحاخام إيلي بن داهان وهو نائب لوزير الدفاع ايضاً ومسؤول الإدارة المدنية في الضفة الغربية شبه الفلسطينين بالحيوانات، وقال إن أرواح اليهود دائماً في مرحلة أعلى من الأغيار، ايليت شاكيد وزيرة العدل (... نعم وزيرة عدل!) طالبت بقتل أمهات الفلسطينيين لأنهن ينجبن أفاعي وليس بشراً! تصريحات أخرى من وزراء كررت اوصافاً تحقيرية بحق الفلسطينيين والعرب وكذلك الأفارقة المهاجرين إلى إسرائيل الذين وصفوا ايضاً بأنهم سرطان. كل ذلك يعكس عنصرية قائمة على فكر عنصري واستعماري يذكر بأسوأ مراحل ومراتب العنصرية البيضاء. المُدهش مرة أخرى أن هذه التصريحات وقائليها هم وزراء في حكومة ينظر إليها الغرب بكونها الأكثر تحضراً ودمقرطة في المنطقة. ليس هناك أي مبالغة في القول إن أي مقارنة بين هذه الخطابات العنصرية المتعصبة مع خطاب «داعش» الدموي والمتعصب تقود إلى النتيجة ذاتها. الداعشية الإسلاموية الهمجية التي رعاها البغدادي لها نظير قوي في الداعشية اليهودية التي يرعاها نتانياهو وحلفاؤه من دولة اليمين الاستيطانية، لا فرق بين الاثنين.
من هنا تأتي أهمية الخطوة الأردنية التي يجب أن تكون بداية حملة سياسية وقانونية وإعلامية تلقي الضوء على العنصريات المباشرة والمستبطنة ليس فقط في السياسة والإعلام الإسرائيليين، بل وأيضاً في القوانين والتشريعات. ومن المؤمل أن لا يتوقف البرلمان الأردني عند خطوة إرسال رسائل إلى البرلمانات العالمية، بل يتبعها بجهد وخطوات متواصلة تتضمن التواصل مع برلمانات عواصم البلدان الكبرى مباشرة وإرسال وفود إليها. والمهم أيضاً في الخطوة الأردنية أنها جاءت بعد اجتماعات الاتحاد البرلماني العربي في القاهرة وفي سياق تكليفه البرلمان الأردني بإعداد تقرير حول تلك القوانين العنصرية، أي أن هناك سياقاً عربياً يستقوي به مجلس النواب الأردني، وحيث يكون الجهد في هذا الاتجاه موحداً وباسم العرب. وفضلاً عن كشف هذه القوانين امام البرلمانات العالمية يجب ان تمتد الحملة المأمولة لتشمل المنظمات الأممية والقانونية والحقوقية وكل عناوين المجتمع المدني المعولم المضاد للعنصرية. كما بالإمكان بل يجب تأطير مثل هذه الحملة ضمن المبادئ العالمية العامة التي أقرتها الأمم المتحدة ضمن الاتفاقية الدولية للقضاء عى جميع أنواع التمييز العنصري في ستينات القرن الماضي، ووقعت عليها دول العالم بما فيها إسرائيل، وغيرها من الاتفاقات العالمية العديدة.
من حق الشعوب العربية، المقهورة والمغلوبة على أمرها في معظم أمورها، على برلماناتها سواء أكانت حقيقية التمثيل أم صورية أن ترى جهداً يعبر عن ضميرها الجمعي وموقفها الحقيقي تجاه عدوانية وعنصرية إسرائيل. تعلم هذه الشعوب وتدرك مرارة ميزان القوى الراهن والتفكك العربي المريع وانحدار قضية فلسطين عن جدول الأعمال العربي. لكن على رغم ذلك تتبقى مساحات للعمل ولمناصرة الفلسطينين ولو بالحد الأدنى ومنها العمل في الساحة القانونية الدولية. لا يمكن إسرائيل ولا يجب أن تفلت بكل ما تقوم به من استمرار في احتلالها الاستيطاني وتوسيعه ومن جرائم وحصار ضد مليونين من الفلسطينين في قطاع غزة، والآن تضيف إلى ذلك كله جرائم سن القوانين العنصرية على مرآى ومسمع العالم جميعاً. وإذا كانت الإدارات الأميركية، وعلى رأسها إدارة ترامب الحالية، والدعم الغربي المتواصل لإسرائيل قد وفر الحماية الديبلوماسية المطلوبة لإفلات الدولة المارقة من اية تبعات لكل سياساتها الإحتلالية والعنصرية فإن النتيجة كانت مراكمة التطرف والإحساس بالإهانة الجمعية العميقة، ونمو موجات الغضب والنقمة تحت السطح التي ما تني تنفجر من وقت لآخر وبأشكال مختلفة. يخطئ من يظن أن التغييب أو التهميش المقصود للقضية الفلسطينية عن جدول الأعمال الإقليمي يعني غياب فلسطين عن الضمير الشعبي العربي، وأن مرارة الإهانة الجمعية قد زالت. بل على العكس لا تزال فلسطين هي القضية التي تجتمع على بوصلة عدالتها الشعوب العربية والاسلامية كما لا تجتمع على أية قضية أخرى. صحيح بالطبع أن كل ذلك لا يتجسد في فعل سياسي مؤثر وأن الحكومات تدوسه إلى ما تحت السطح وهي تسير وفق بوصلات مختلفة تقودها المصلحة القومية او التنافس او الحفاظ على النظام هنا وهناك. لكن هذا لا يعني خفوت التضامن مع فلسطين والفلسطينين. يكفي للتدليل على ذلك فشل اسرائيل الذريع في تحقيق أي نجاح يُذكر على مستوى التطبيع الشعبي مع المصريين على رغم مرور اربعة عقود على زيارة السادات للقدس وما تبعها من اتفاقيات كامب ديفيد. ويتوازى ذلك مع فشل آخر في تحقيق أي اختراق تطبيعي يُذكر في الأردن على رغم مرور ما يقارب من ربع قرن على اتفاقية وادي عربة. معنى ذلك أن صوت وضمير ووجدان العرب ما زال رافضاً لإسرائيل واحتلالاتها وعنصرياتها. ومعنى ذلك أيضاً أن البرلمان الأردني ينطق في هذه القضية بضمير الشعب الأردني وضمير الشعوب العربية، وهذا ما يمنح الخطوة الأردنية شرعية لا يمكن منافستها، وهي الخطوة التي يجب أن تتحول إلى حملة برلمانية حقوقية عربية ضد عنصريات إسرائيل وقوانينها وسياستها.
عن الحياة اللندنية