في ذكرى محمـود وسميح .. ينتصـب الشـعـر وطـنـاً..!

أكرم عطا الله.jpg
حجم الخط

لا أعرف كيف يشدني الثنائي الجميل محمود درويش وسميح القاسم هذا الشهر من كل عام كأن حبال القصيدة تلتف حول عنقي وتجرني إلى حيث الخشوع أمام الأضرحة لطفلين عملاقين كتبا اسمنا على الريح وعلى جذوع الشجر المعمر وعلى سفوح الجبال ومياه طبريا.
يا لهذا الثنائي الذي غادر في آب كأن اتفاق الطفولة في الرامة في زيارة محمود الأولى لتوأمه عندما استوليا على مضافة والد سميح العليا وحولاها بلا استئذان إلى منتدى للشعر، وسهرا طويلا حتى ساعة متأخرة من الليل أو أختها المبكرة من النهار، وغالب النعاس محمود ليسحب اللحاف إلى تحت أنفه قائلا لسميح: «بخاطرك» كأنه كان يستأذن الرحيل قبل صديقه الأول وهكذا كانت لعبة القدر في شهر واحد أن يقول محمود بخاطرك بفارق ستة أعوام.
كأن محمود كان يشعر بأنه سيغادر في آب عندما أعطى لروايته اليتيمة المدهشة ذاكرة للنسيان عنوانا فرعيا «المكان آب ... الزمان بيروت»، عرج محمود على نهايته العام 1982 عندما كانت الأرض والبحر والسماء تتسابق لاصطياد أرواح البشر في حرب الإبادة التي شنها شارون على بيروت، في تلك الحرب المجنونة وضع محمود سيناريو موته، كان كثير الخوف ليس من الموت بل من أن يشوه الموت ملامحه بقذيفة أو انهيار مبنى أو حديد يقتلع عينه فيسجى مجردا من أبهته التي أحبها فكتب «أريد أن أموت جميلاً».
مات جميلاً كما أراد بملامح طفولته وقد سارت الطقوس كما صممها في روايته حتى لون الورد الأصفر .. كما صدمنا حين غادر مبكراً لأن في شعره ما يحمل أمل العودة والخلاص كما قال، ولأن سفير فلسطين التي حملها على ظهر قصائده يجوب العالم باحثاً عن شاهد على الجريمة استعجل الرحيل الصادم بعد أن نجا من لعبة الموت مع القلب الذي اقترب منه الموت أكثر من مرة لكن هذه المرة كانت مختلفة.
عندما اندلعت حرب العام 48 كان محمود درويش ابن السنوات السبع قد رحل مع والده وجده إلى لبنان أشهراً ليعود إلى البروة فيجد فيها راعي أبقار من المستوطنين الجدد بعد أن تهدّم كل شيء ولم يبقَ سوى شجرة الخروب والكنيسة المهجورة فيدور بينهما حوار ينقلب فيه المعتدي إلى ضحية فيسأله محمود: من أنت يا سيد؟ فأجاب: أنا من كيبوتس يسعور، فيسأل محمود: أين كيبوتس يسعور؟ قال: هنا، فيقول محمود: «هنا البروة، قال المستوطن: أين هي، فيجيب محمود: هنا تحتنا فوقنا حولنا في كل مكان، سأل محمود المستوطن الجديد ماذا تفعل هنا ؟ أجاب: عائد إلى بلادي ليسأل الآخر محمود وماذا تفعل أنت هنا ؟ أجاب عائد إلى بلادي.
هكذا بجريمة التاريخ تساوى الجلاد والضحية وأصبح علينا نحن المطرودين أن نقنع العالم بجدارة روايتنا .. كان محمود واحداً من أساطيل الدفاع عن الرواية وعن القلاع التي سقطت من الجيوش العربية .. جاب العالم والعواصم والمطارات، كتب أجمل ما قيل في الشعر العربي الذي حفظناه في مقاعد الدراسة وسنوات مطلع العمر حيث دلنا على عصافير الجليل وحبل الغسيل وعرفنا حليمة التي لن تغلق الباب لأن الغياب لن يطول، ولكنه طال يا محمود لأنه أصبح لكل قبيلة أميرها كما قال وجعا في نهاية العمر.
سميح الذي تواطأت عليه إسرائيل حتى النهاية حتى في موته الذي كان في ذروة الحرب، حين كانت رائحة اللحم المشوي أكثر قوة من الاحتفاء بالشاعر ليموت بلا صخب بعد أن ملأ فلسطين ضجيجاً ثائراً على تواطؤ التاريخ، لم تذكره في ذروة القنابل سوى قناة الميادين التي نقلت خبر وفاته واستعادت مقابلة وداعية ملؤها الألم، لا نعرف هل ألم الجسد الذي أتعبه المرض أم ألم الوطن الذي لم يكف عن الأنين.
العام 1984 اتفق شاعرانا على أن يلعبا لعبة جميلة، أن يتبادلا الرسائل بينهما وينشراها في مجلة «اليوم السابع» التي كانت تصدر في باريس، رسائل عاطفية تشي بكل منهما عن الأسرة والوطن والذكريات والبيوت المهدّمة وشجرة الخروب وبنت الجيران ومخفر الشرطة الذي كان دائم استدعائهما ليسأله عن موعد الاعتقال القادم، وبعد عامين على الفكرة التي تسربت للأصدقاء لتجر اتهامات التعالي على محمود درويش لتردده في كتابة الرسائل كما قال بدأت بينهما مراسلات جمعت في كتاب يعتبر من أجمل ما كتب في الأدب الفلسطيني.
في الكتاب انكشاف ضعف الشاعرين، فقد باح كل منهما للآخر وأمام الشهود بكل الوجع المختزن من الرحيل والغربة في الوطن، بالنسبة لسميح الذي أصبح مواطن درجة ثانية في وطنه، وغربة المكان لمحمود الذي بدا أنه نادم على سفر.
ففي كل رسالة كان يتفقد فيها المكان موصيا صديقه الشاعر بأن يزورها ويكتب اسمه على كل شيء ليعيد إحياء ثورة الغضب في قلب سميح ليصرخ بشدة «يا محمود أنت تضغط علي بشجرة الخروب .. بدموعك المنهمرة سأعترف لك أنا أتهرب من أنقاض البروة زيتونها خروبها صبّارها وحين أمر بها أحاول إشغال نفسي بأمر ما حتى أتجنّب النظر لأنني لو نظرت فإن عقربا يلسعني في القلب بلا رحمة .. في رده المبلل بالدموع قال سميح «أعذرني .. لن أزور شجرة طفولتك في البروة لن أحفر عليها اسمينا .. ببساطة وصراحة لا أستطيع، شيء آخر أستطيعه من أجلي ومن أجلك هو أن أحفر اسمينا على الريح، وأن أنقش الريح على الوطن وأن أكتب الوطن على لحمي وأن أنثر لحمي في القصيدة».
لقد كتب شاعرانا الوطن على كل الجدران وفي كل الأزقة، كان القلم والقلب شريكين في تخليد الذاكرة الوطنية، غادرا قبل أن يتم فتح طراودتهما فما زالت الرحلة طويلة .. ياه كم نشتاق لهما ..!