لغز الوطن كلمة السرِّ وشيفرة الحلِّ المفقود

1_1453847114_2623.jpg
حجم الخط

 

كلما أوشكنا على الاقتراب من المصالحة وانهاء الانقسام، تفاجئنا بأن هناك أصابع خفية أرجعتنا إلى مربع المراوحة في المكان!!

من يا ترى المسئول عن ذلك، أهو شخص أم جهة أو واجهة مجهولة - ولكنها متنفذة - تعود لكلٍّ من فتح أو حماس؟!

أم أن اللعبة لا تسمح قوانينها بالتقدم كثيراً للأمام.. وبالتالي، نجد أنفسنا مع كل شوط قطعناه باتجاه شاطئ الأمان وأمنيات الفرج، تسحبنا رياح الصراع بسرعة من جديد باتجاه بحر الظلمات، وتشدنا بقوة إلى فوهة النفق، حيث تتزاحم هناك حالات الإحباط واليأس والألم، ويتبدد كل ما توقعناه وانتظرناه من البشريات والأمل.

إن مسيرتنا كشعب فلسطيني وكفصائل وتنظيمات لم تكن يوماً مستقرة، أو تشهد على أننا كنا أهل رأي وقرار واحد، بل مجموعة متشاكسة لم تنتظم صفوفها، وإن سلَّم أكثرهم - في مرحلة تاريخية - زمام القيادة لحركة فتح، وانضوى تحت مظلة منظمة التحرير، ورضى بما أسداه عليه الأخ القائد أبو عمار (رحمه الله) من فضائل الكوتة ونعيمها المقيم.

كان ياسر عرفات (رحمه الله) أفضل من أدار العمل الوطني، وأنجح من هندس علاقات الفصائل، بحيث تعمل معه بالتزام وحيوية وصمت، وأن تظل الخلافات محصورة دائماً داخل البيت الفلسطيني، حتى لا تهتز شباك الثقة - محلياً وإقليمياً - بمنظمة التحرير.

في الحقيقة، كان ياسر عرفات رجل المرحلة وقبطان السفينة الحكيم.. نعم؛ اختلف البعض معه وتحدى سلطانة أحياناً، لكنه كان يعرف كيف يعيد الجميع إلى دائرته، ويحفظ بذلك توازن السفين.

منذ غاب ياسر عرفات (رحمه الله) لم يملأ أحد الفراغ الذي تركه، بل تعاظمت الخلافات وتردت الأوضاع، وافتقدنا منهاج وحكمة الرجل الرشيد.

في عام 2005 كان اتفاق القاهرة، واعتقد الجميع بأن الطريق غدت ممهدة لبناء نظام سياسي فلسطيني جديد قائم على التوافق الوطني، بحيث يكون لكل فصيل أو تنظيم مكانته ودوره في الحياة السياسية والنضالية، وانتظرنا تطبيق ذلك، حيث كانت حركة حماس قد دخلت مضمار التنافس، وأصبحت الطريق أمامها ممهدة لدخول منظمة التحرير.

ولكن – للأسف- كان هناك من يضع العراقيل ويعطل المسيرة، ويتعمد دفعنا إلى مربعات التوجس وتعميق الخلاف.. ربما كان "اتفاق القاهرة" هو من هيأ الأسباب، وشجَّع الأطراف الفاعلة في الساحة الفلسطينية - بترتيبات مصرية ورعاية دولية - للذهاب للانتخابات، حيث كان لكل طرف حساباته ورهاناته المختلفة.

لم يكن أحد – بالطبع - يتوقع ما خرجت به نتائج الانتخابات التشريعية، ولذلك كان هول الصدمة كبيراً، وتسبب في إصابة البعض بحالة من فقدان التوازن والعمى السياسي، حيث غابت عملية الاستيعاب والتفكير في العواقب.

في نهاية شهر مارس 2006، شكلت حركة حماس حكومتها، وكانت مزهوة بالنجاح الباهر الذي أحرزته في تلك الانتخابات التشريعية، ولم يكن يخطر ببال قيادتها في الداخل حجم التآمر الذي ينتظرها، كونها دخلت على خط العمل السياسي بدون خبرة أو تجارب سابقة، واعتقد البعض من قيادات الحركة بأن أبواب العواصم العربية والإسلامية ستفتح أمامهم كي يطأوا بأقدامهم عتبات القصور، ويدخلوا على الرؤساء والملوك بقوة، ليتلقوا من فيض عطاياهم، ومن نِعم البترودولار، وبذلك تنفك الأزمة الاقتصادية الضاربة الأطناب، ويتنعم أهل فلسطين بالخير الوفير!!

الجير ذكره، أن حماس كحكومة تحركت باتجاه الدول العربية والإسلامية، ولكنها وجدت أن الكثير من قلوب الذين ناشدتهم على المستوى الرسمي كانت غُلفاً، وكان ترحيبهم لها على استحياء، ثم سرعان ما بدأت بعض البلاد بنقض العهد والتحريض على الحركة، في محاولة بائسة لإفشال التجربة، وإغراق سفينتنا قبل أن تبلغ شاطئ الأمان.

قد نكون أخطأنا في لعبة السياسة، وهذا أمر وارد، لغياب الخبرة والتجربة وتفص الوعي لمتطلبات الحكم، وطريقة إدارة علاقاتنا المحلية والإقليمية والدولية، فكان أن عثرت بنا الأقدام، وتحقق لأهل المكر والمكائد ما كانوا يخططون له، حيث أخذتنا جميعاً "حميَّة الجاهلية"، وتجرأنا ببلاهة على دماء بعضنا البعض، ونجح شياطين الإنس في تهيئة الظروف لمحنتنا الوطنية، حيث سالت دماء الجميع من فتح وحماس في يونيه 2007، وذلك في مشهد مأساوي حزين، سيظل – بلا شك - يطارد ذاكرتنا جميعاً كفلسطينيين.

منذ ذلك الحين، وحتى وقت قريب، كانت لغة العداء والتحريض والتشهير هي السائدة بيننا، حيث ولغنا سياسياً في أعراض بعضنا البعض، بعد أن عبأنا النفوس بالحقد والكراهية، وقام كل واحد منا بإلباس الآخر ثوب الشيطان!!

مشوار طويل قطعناه في اتجاه تحقيق المصالحة وإنهاء الانقسام، حيث احتضنتنا مصر الشقيقة في العديد من اللقاءات وجولات الحوار، وأنجزنا في كنفها ورقة المصالحة في عام 2011، واستبشرنا خيراً؛ لأن مصر - التي في خاطري - هي الدولة المركزية بالمنطقة، وهي الأقرب - اجتماعياً وثقافياً - لقلوبنا جميعاً، وهي تمثل بمعبرها شريان الحياة لقطاع غزة.

للأسف؛ يبدو أن شيفرة الحل وكلمة السر لم يكن يمتلكها أحد في كل الذين تحاورا في القاهرة، فعدنا بعد انتكاسة الربيع العربي إلى حظائر الخيل ومربعاتها التي لا تصهل.

بعد مصر، حاوت قطر مشكورة الدخول على خط المصالحة، وتوظيف إمكانياتها المادية في تليين مواقف الطرفين؛ فتح وحماس، واجتهدت تركيا كذلك بما لها من دالة ومواقف على الجميع في الساحة الفلسطينية التقريب بينهما، وتعاهدوا لنا كليهما بالكثير من النصائح والكلمات الطيبة، والتحذير من مغبة الانقسام على الشعب والقضية، ولكن يبدو أن الجميع انطبق عليه القول: لقد اسمعت لو ناديت حياً..!!

ومع اتساع رقعة الخلاف مع الرئيس محمود عباس، وإخفاق كل المحاولات لكسر مزاجية الطرفين، واسترضائهم بكل الوسائل والطرق، إلا أن شقة الخلاف – للأسف - ظلت تتسع، وإن كان البعض يحاول إعطاء الانطباع أن الفرصة ما زالت قائمة أمام جهود الوساطة، فيما الحقيقة أن التهرب من اللقاء والمواجهة على طاولة الحوار هي ديدن الطرفين؛ فتح وحماس.

في الواقع، كانت المشاهد المتعلقة بالتحركات والمبادرات الخاصة بملف المصالحة الوطنية تترآى أمام أعين النخبة الفلسطينية، وهي تؤكد لها - يوماً بعد يوم - أن الطرفين يتكاذبان، والكل يراهن على الوقت، وأن تعمل متغيرات الظروف لصالحه، فيما الشعب يضغطه - بلا رحمة - الجوع والقهر، وتطحنه مسغبة الفقر، وضرورات الحاجة للحد الأدنى من العيش الكريم.

أنا هنا لا أعفي أحداً مما عليه من مسئولية وأمانة وطنية، لا فتح ولا حماس، لا هنية ولا عباس، فكل الأطراف يلحقها شيء من الإدانة والاتهام، حيث أثقلنا على شعبنا الأحمال، حتى غاصت من عظامه النواصي والأقدام.

للأسف، هناك من يروي بأن الرئيس أبو مازن والكثير من البطانة حوله كانوا يراهون على أن العدوان الإسرائيلي المتكرر على قطاع غزة هو من سيأتي بحركة حماس زاحفة اليه!! ولكن الرهان فشل، حيث عجزت اسرائيل عن تركيع حركة حماس، وكان للمقاومة الباسلة كلمتها في الميدان، ولحاضنتها الشعبية أسطورة صمود في وجه العدوان، ولم تكسر تلك الحروب الثلاثة على قطاع غزة إرادة أهلها، بل زادت الجميع ممن حملوا لواء الجهاد والمقاومة قوة وجسارة واقتدار.

وبدلاً من أن يشجعنا هذا الصمود البطولي في وجه المحتل الغاصب لاتخاذ خطوات تُقرب المسافات بيننا، وتقودنا إلى المصالحة والتسليم بأن الخيار الوحيد أمامنا جميعاً للحفاظ على وجودنا، وحماية شعبنا، هو الشراكة السياسية والتوافق الوطني، ظلت المناكفات والاشتراطات هي الرسائل المتبادلة بيننا، مع إعلام فلسطيني هزيل، يعمل – للأسف - طوال الوقت على تأجيج صور المواجهة المستعرة، وذلك بصب الزيت على نار الخلافات القائمة وتصعيدها!!

إن انعدام الرؤية وعمى البصيرة التي أصابت الجميع قد حرمتنا من تجاوز صفحات الخلاف بيننا، وكانت المكابرة وشعور التعالي والعزة بالإثم قد ساقتنا بعيداً عن أهدافنا الوطنية، حتى تعمقت بيننا الخصومة وتاهت بنا السبل.

تفاهمات بانتظار التمكين: مصر ودحلان وحماس

بالرغم من كل الجدل القائم حول التفاهمات التي أجرتها حركة حماس مع القيادة المصرية، وكذلك مع النائب محمد دحلان، وصاحبتها حالة من التفاؤل والأمل بين أهلنا في قطاع غزة، إلا أن ما ينتظره الشارع الفلسطيني هو أن تكون مثل هذه الخطوة مدخلاً لاجتماع شمل الكل الوطني، وليس فقط حالة اصطفاف لتكريس الانقسام.

إن الذي أعرفه أن هناك رغبة حقيقية لدى قيادة حركة حماس بتوحيد الجهد والرؤية مع التيار الإصلاحي لحركة فتح، بهدف النهوض بقطاع غزة، وإخراج أهله من الحالة الكارثية التي فرضها الحصار عليهم، والعمل على ترتيب الأوضاع لتحقيق الأمن والاستقرار، ثم بعد ذلك استكمال عملية إصلاح البيت الفلسطيني، عبر إجراء انتخابات في إطار تفاهمات أوسع حول الشراكة السياسية، وأليات عمل منضبطة وفق قواعد التوافق الوطني.

نعم؛ قد نشهد اليوم حراكاً موسعاً ومبادرات من هنا وهناك، ولكنَّ المحصلة - للأسف – صفر، حيث إن كل ما نشاهده هو عملية مفتعلة لاستنباتٍ البذور في الهواء!!

حسرة وأكثر من همسة عتاب!!

إن من يريد أن يستنهض شعبه، ويعيد توجيه البوصلة باتجاه الوطن، فإن عليه أن يتحمل أذى كل من يقود برؤية قاصرة وعيون معصوبة، لا يرى من خلالها – للأسف - إلا إلهامات الحزب وأفكار التنظيم، أما الوطن فيتأخر عنده خطوة أو خطوتين ليفسح المجال لخطاب الفصائل والتنظيمات!!

لعل هذا هو اللغز، ومكمن الخطيئة في كل ما نشاهده من تخبط وعثرات في مسيرتنا السياسية، وكذلك هذا التراجع الملحوظ في مكانة القضية الفلسطينية، حيث قدَّم كل منَّا أجندته التنظيمية وأولوياته الحزبية، فيما نداء الجماهير وهتاف الشارع، الذي تلهج به الحناجر: "نموت وتحيا فلسطين"!!

إن كلمة السر وشيفرة الحل من هذا المأزق المأسوي هي أن يتقدم الوطن على الحزب والفصيل والتيار، وأن يتم ترشيد خطابنا السياسي والثقافي فلا يحمل إلا اللغة التي تشدنا باتجاه البوصلة، لتحقيق هدف شعبنا وأمله المنشود.

وحتى يتم ذلك في ظل ما نشاهد من صراعات هي أشبه بعراك القبيلة، نحتاج إلى امتلاك الشيفرة، والتأكد من حصولنا على كلمة السرِّ، والتي يبدو أن شاعر الوطن المبدع محمود درويش قد أدرك ما جهلناه منذ زمن طويل، حين قال: "سنصير شعباً حين ننسى ما تقول لنا القبيلة"، دعونا نأتي بالتحرير أولاً، ونمتلك الوطن، ثم خذوا ما تشاؤون من الغنائم والمناصب والألقاب.

هذا هو السرُّ، وهذه هي كلمته: الوطن أولاً، والوطن ثانياً، والوطن ثالثاً، ثم الحزب إن شئتم يأتي رابعاً أو خامساً.

ختاماً.. لقد حاول الحراك الشعبي المسمى "وطنيون لإنهاء الانقسام"، من خلال النداء الذي أطلقه باسم القدس، إيصال رسالة قوية لطرفي الأزمة بتقديم مبادرة تتجاوز لغة الاشتراطات، التي عادة ما تشكل عقبة كأداء أمام التوصل لأي اتفاق، وتتلخص سطورها في التالي: دعوة حركة حماس لحل اللجنة الإدارية في غزة، بالتزامن مع إلغاء الإجراءات العقابية التي اتخذتها السلطة الوطنية تجاه قطاع غزة، إضافة لدعوة الرئيس أبو مازن البدء بإجراء المشاورات لتشكيل حكومة وحدة وطنية، واستئناف عمل اللجنة التحضيرية للمجلس الوطني، وبما يضمن مشاركة جميع القوى في صياغة القرار الوطني وتحمل مسؤولياتهم الوطنية داخل المؤسسات الوطنية الجامعة في إطار منظمة التحرير الفلسطينية، ودعم واسناد المقاومة الشعبية، كما دعا النداء، الذي تقف خلفه المئات من الشخصيات والإطارات القيادية، لتطبيق عناصر المبادرة رزمة واحدة.

للأسف، مثل هذه النداءات رغم كثرتها وجديتها وإخلاص الجهات التي تطلقها، إلا أنه يتم تجاهلها، وتعمد تطنيشها من قبل طرفي الأزمة؛ لأن واقع الشعب المطحون لا يبعث في قلوب أيٍّ منهما الخوف أو القلق، ولا يشكل بالطبع تهديداً حقيقياً لكلٍ منهما.

الأمر الذي يعني انعدام الرؤية، والبقاء المتقلب داخل النفق المظلم، وبالتالي استمرار حالة المراوحة القاتلة في المكان، بانتظار صعقة قادمة أو انفجار!!

ختاماً.. إن المخرج من هذه الحالة السريالية التي أزهقت منا الأرواح، وتوشك إذا ما استمرت أن تأخذنا في ملهاة قاتلة جديدة، محفوفة بالمكاره والأخطار.. ولذا فإن علينا البحث وقبل فوات الأوان عن طريق ثالث، والذي حاول الصديق هاني المصري؛ مدير مركز مسارات، تلخيصه بالقول: "إذا كانت الوحدة مستبعدة - رغم أنها ضرورة - حتى إشعار آخر، فما الحل إذًا؟ الحل يكمن في ظهور طرف ثالث يحمل رؤية وبرنامجًا عابراً للفصائل، ومنتشراً في جميع أماكن تواجد الشعب الفلسطيني (ليس حزباً جديداً وإنما تيار وطني عريض، يضم كل المتضررين من استمرار الانقسام، والحريصين على حماية القضية والشعب والأرض، ويشكل أداة ضغط تكبر إلى حد يمكن معه فرض إرادة ومصلحة الشعب بإنجاز الوحدة، ويكون هدفه إنقاذ القضية قبل فوات الأوان. فليس صحيحاً أن الوحدة لا يمكن أن تتحقق بإرادة الفلسطينيين - مع إدراك التأثير الهائل للأطراف الخارجية-، خصوصًا أنها لا تتخذ موقفاً واحداً، وإنما هناك تنافس مستعر بين محاور مختلفة عربية وإقليمية ودولية، ويمكن توظيفه إذا توفرت القناعة والإرادة الفلسطينية".

إنني أتفق مع هذا القول، وأنادي بضرورة تشكيل جبهة وطنية تمثل هذا الطريق الثالث، والذي إذا ما خرجنا للإدلاء بأصواتنا في الانتخابات القادمة، فإنها ستكون صاحبة الفوز والكسب الكبير، الذي سينعقد به شمل الإجماع الفلسطيني، ضمن شراكة سياسية وتوافق وطني، يتحرك ضمن مساحات التفاهم والعمل المشترك، التي بدأنا ندرك أنها كثيرة، إذا ما صدق العزم ووضح السبيل.