ما وصل إليه حال النظام السياسي الفلسطيني جعل كثيرين يسلمون بأن المشروع الوطني وصل لطريق مسدود والقضية مقبلة على تصفية من خلال فصل قطاع غزة وربطه بمصر ، وتفكيك الحالة الوطنية في الضفة من خلال تقاسم وظيفي مع الأردن أو إعادة روابط القرى . ونعتقد أن هذه رؤية متشائمة واستسلامية ،وبديلها هو تصويب المسار من خلال إعادة توجيه البوصلة نحو فلسطين كقضية تحرر وطني ، قضية شعب خاضع للاحتلال في مواجهة إسرائيل ككيان احتلالي عدواني عنصري ، وهذا يتطلب التحرر من وطأة استحقاقات السلطة على النظام السياسي والعودة لمنظمة التحرير الفلسطينية كإطار وطني جامع وكعنوان لحركة تحرر وطني .
ما أوصل القضية الفلسطينية إلى ما هي عليه هو الخلل في أداء النظام السياسي الفلسطيني و انحرافه عن هدف التحرير وغرق مكوناته في الصراع على السلطة وخصوصا بعد ظهور حركة حماس من خارج المشروع الوطني ،وطغيان حسابات السلطة الوطنية والتزاماتها تجاه عملية التسوية والاتفاقات الموقعة مع إسرائيل على منظمة التحرير واستحقاقاتها كمرحلة تحرر الوطني .
أدى تهميش منظمة التحرير لصالح السلطة في مراهنة لأن تكون السلطة قاعدة منطلق للدولة ، والطابع الشمولي للنظام السياسي واحتكار الحزبين الكبيرين – فتح وحماس - لعناصر القوة والسلطة والمال – أدى كل ذلك إلى إعاقة قدرة المجتمع على تشكيل أو إعادة إنتاج نخب وطنية نضالية جديدة ،كما جعلت الشعب الفلسطيني مكشوفا وضعيفا أمام التدخلات الخارجية والإغراءات المالية ،وإلى اختراق حصانة المجتمع الفلسطيني .
كانت مخرجات كل ما سبق إعادة تشكيل المشهد الفلسطيني بما يضعه في حالة قطيعة مع مرحلة التحرر الوطني وإلى حرف الشعب عن وجهة النضال الوطني المتصادم مع الاحتلال ليقع في وهم السلطة والحكومة والمناصب ووهم إمكانية تنمية المجتمع وبناء مؤسسات الدولة في ظل الاحتلال ، ووهم المراهنة على مفاوضات وتسوية مع إسرائيل بدون حضور المقاومة كحالة شعبية ميدانية تسند المفاوضين على طاولة المفاوضات حتى كورقة مساومة .
الجهات المانحة العربية والأجنبية،سواء الملتزمة بعملية التسوية أو المعارضة لها ، مارست عملية ابتزاز وإذلال للشعب والأحزاب والقيادة ،فالسلطة الوطنية تعتمد على تمويل ومساعدات خارجية ، وسلطة حماس في قطاع غزة تعتمد على مساعدات خارجية وخطاب إسلاموي عبثي ، وبات الشعب اتكاليا يعتاش على المساعدات حيث تم تعميم نموذج وكالة الغوث –مساعدات وغذاء بدون عمل - .
في ظل هكذا انزلاق نحو التبعية وقبول المال السياسي المشروط وتدمير مقومات صمود الشعب،لم يعد النضال واجبا وطنيا يتطلب التضحية والعطاء بل أصبح وظيفة براتب،المناضل أو المجاهد بات موظفا ،بل تم اجبار المناضلين والمجاهدين على التقاعد في ريعان شبابهم وكأن مرحلة التحرر الوطني قد أنجزت أهدافها ! وتغلل الملل السياسي أو مال الرشوة الجماعية لكل مناحي حياتنا ، لم يعد لدينا قادة حركة تحرر بل وزراء وأعضاء تشريعي وموظفون سامون يتقاضون رواتب عالية ويتمتعون بامتيازات أسوة بالوزراء والمسئولين في الدول المستقلة .
أصبح وضعا عاديا وطبيعيا أن تعيش أسرة بكاملها على ما تقدمه وكالة الغوث أو الشؤون الاجتماعية أو كوبونة (معونة غذائية) تقدمها هذه الدولة أو تلك أو هذه المؤسسة الأجنبية أو تلك ، شباب بعنفوانهم باتوا يصطفون بالطابور ويقفون لساعات للحصول على كوبونة أو مساعدة أو عقد بطالة لعدة أشهر إن حالفهم الحظ ، أطفال وشباب ونساء يتسولون عند الإشارات الضوئية وفي الشوارع ، وبات دور السلطتين فرض تكييف قصري للمواطنين مع شروط الجهات المانحة ومع التزامات السلطتين مع إسرائيل – تنسيق أمني رسمي في الضفة ،واتفاقية هدنة رسمية وتنسيق غير رسمي في قطاع غزة -و توزيع رواتب ومساعدات ليس لدعم صمود الشعب وبما يؤسِس لاقتصاد مُنتج بل لتعزيز علاقة الولاء للحزب الحاكم ولشراء ذمم شخصيات اعتبارية ومخاتير وإعلاميين الخ .أما مؤسسات المجتمع المدني أو (الأنجيوز) فالجهات المانحة الأجنبية تتكفل بهم مباشرة ليقوموا بادوار محددة لهم .
هذه ظواهر لم تكن معروفة في المجتمع الفلسطيني عندما كان يعيش مرحلة التحرر الوطني،عندما كان الطالب يدفع رسوم الانخراط في اتحاد الطلبة ، والعامل يدفع رسوم الانخراط في نقابة العمال ، والمعلمون والموظفون يدفعون نسبة من راتبهم%5 لمنظمة التحرير الفلسطينية الخ ، وعندما كان الأطباء والمهندسون والأكاديميون ورجال الأعمال يمارسون واجبهم النضالي إلى جانب مهامهم الوظيفية وبعضهم كان يترك وظيفته وحياة الرفاهية التي يعيشها لينخرط في صفوف فصائل الثورة الفلسطينية وفي العمل الوطني دون مقابل ، للأسف في كثير من الاحيان بات الانتماء للعمل السياسي اليوم من أجل الأخذ وليس من أجل العطاء .
هذه الحالة ليست قدرا على الشعب الفلسطيني بل هي حالة مرضية طارئة يمكن تجاوزها ، إما من خلال تحرير المجتمع والأحزاب من الارتهان للمال السياسي الخارجي ،أو من خلال مباشرة الصدام مع الاحتلال ،فالتصادم المباشر مع الاحتلال بالمقاومة السلمية الشعبية في إطار استراتيجية وطنية كفيل بإعادة الروح الوطنية الكفاحية الأصيلة للشعب . وفي التاريخ عِبَرّ ،فعندما مر الشعب الفلسطيني بسنوات التيه ما بعد النكبة مباشرة حين كانت الفلسطينية تهمة جاءت الثورة الفلسطينية بقيادة حركة فتح لتستنهض الحالة الوطنية وتحول الشعب من مجرد لاجئين إلى شعب مقاوم وفرض على العالم الاعتراف به وبحقوقه السياسية ، وعندما مرت منظمة التحرير بحالة من التيه وكادت أن تتلاشى بعد خروج المقاومة من لبنان وتآمر العرب وغيرهم عليها جاءت انتفاضة 1987 ضد الاحتلال لتستنهض الوطنية الفلسطينية مجددا وتوحد الشعب بكل فئاته .
اليوم وبعد ما وصل إليه الحال من انغلاق أفق التسوية السياسية بل بروز مؤشرات للمساومة على فلسطين وشعبها من أطراف عربية بتواطؤ من بعض الفلسطينيين ، وبعد حالة البؤس والإحباط والفقر في قطاع غزة وتغول الاستيطان والتهويد في الضفة ، ومع تآكل الدور الوطني للسلطة الوطنية ... ليس أمام الشعب الفلسطيني للخروج من هذا الوضع المأساوي إلا إعادة توجيه البوصلة نحو فلسطين وإعادة ثقة الشعب بنفسه من خلال العودة لمنظمة التحرير وتوجيه كل طاقات الشعب نحو انتفاضة أو هبة شعبية ضد الاحتلال ، ولكن مع الاستفادة من دروس الماضي وتجنب الأخطاء التي صاحبت انتفاضة الاقصى 2000 وخصوصا غياب قيادة وطنية موحدة وتجييش الانتفاضة فصائليا بدون إستراتيجية مقاومة موحدة .