توقع ربّ الأسرة وهو طبيب الأسنان الفلسطيني المعروف د. عدنان كلَّاب، أن تعيده السلطات الهولندية إلى منزله الذي صادرته منه قبل مغادرته البلاد، وأن تمنحه الجنسية التي طلبها منذ نحو أحد عشر عامًا ولم ينلها حتى يومنا هذا،
لكن ما حدث شكل علامة فارقة في حياة الطبيب كلَّاب, والذي يقبع الآن في السجون الهولندية "مصابًا" ومحرومًا من حق الزيارة أو حتى توكيل محامٍ للدفاع عنه.. ماذا فعل؟! وهل ما قام به من "جرم" يوازي مستوى المعاملة "العنصرية" التي تلقاها هناك؟!. داخل أروقة المدرسة، في حصة دراسية، تبحث مع الطلبة موضوع "الثقافة الجنسية" وتعرضها لهم على شكل "أفلام إباحية"، وقف نجيب عدنان كلّاب ذو السبعة عشر ربيعًا ليخبر معلمته أنه لا يريد أن يشاهد هذه الأفلام. المعلمة صُدمت من موقف نجيب وسألته عن السبب؟، فأخبرها أن دينه الإسلامي يحظر عليه مشاهدة هذه الأفلام, كما أنها وصية والده له، لم تحتمل المعلمة "رجعية الطالب المسلم وتخلفه" حسب وصفها له،
وقامت باستدعائه إلى باحة المدرسة ووصفته بتلك الأوصاف أمام جميع الطلبة، وطلبت منه استدعاء والده لمقابلة مدير المدرسة. د. عدنان كلّاب والد نجيب, حضر إلى المدرسة وفي رأسه أفكارًا كثيرة لمحاولة إقناع مدير المدرسة بموقفه، وسليقته المتسامحة هَدَته إلى ما اعتقد أنه السبيل إلى مبتغاه, جلس كلَّاب مع مدير المدرسة الذي طلب منه بيان سبب رفض "نجيب" مشاهدة تلك الأفلام، فكرر عدنان كلام ابنه، مضيفًا: "أنا أحترم دينكم وأؤمن بأن عيسى عليه السلام هو نبي الله، كما أؤمن بوجود الديانة اليهودية رغم أنهم محتلون لموطني ومضطهدون لشعبي, لكنني أحترم معتقداتهم, فلماذا تجبرونني على ما يخالف معتقداتي الدينية؟!".
مدير المدرسة عدّ عدنان شخصًا "غير سوي"، ويحتاج إلى علاج في مستشفى الأمراض النفسية والعقلية، لأنه -بحسب وجهة نظر المدير- يحرم أطفاله من حضور دروس "مهمة" كتلك التي تتناول موضوعات الثقافة الجنسية.
خرج الطبيب كلّاب من غرفة المدير ليتفاجأ بوجود عربة إسعاف وأخرى تتبع مستشفى الأمراض العقلية إضافة إلى مركبة شرطة, كان مدير المدرسة قد طلب حضورها إلى المدرسة خشية أن يقوم كلّاب بأي رد فعل عنيف.
وفق قوانين الهجرة في الدول الأوروبية، فإن من حق المهاجر أن يحصل على جنسية الدولة التي لجأ إليها بعد مرور أربع أو خمس سنوات على وجوده فيها، وهو ما لم يحصل عليه الطبيب عدنان، الذي غُرر به، حيث عَرض عليه مكتب اللجوء تقديم طلب جديد قبل أن توشك المدة على الانتهاء، وهو ما قام به كلّاب دون أن يعي حقيقة ما يدور حوله.
وبقي في المملكة الهولندية لأربع سنوات أخرى، يعيش في منزل صغير منحته إياه الحكومة، ومخصصات له فقط وقدرها 300 يورو شهريًا، عليه أن يدخر منها 2000 يورو سنويًا كرسوم للدولة لقاء مكوثه فيها، وفي المقابل حرمانه من مخصصات أطفاله الأربعة والتي بلغت 12 ألف يورو حتى الآن، وحرمانه أيضًا من مزاولة مهنته كطبيب.
ثماني سنوات والطبيب الفلسطيني عدنان كلّاب يعيش في ضيق دون أن يحصل على الجنسية أو مخصصات أطفاله التي تساعده في عيش حياة كريمة في تلك المملكة، يضاف إليها ما يحصل مع أبنائه في المدارس وإجبارهم على تلقي الثقافة الغربية، تلك الأسباب الثلاثة كانت كافية ليقرر كلّاب الهجرة إلى إحدى الدول المجاورة للمملكة، فوقع اختياره الأولي على بلجيكا.
طلب الطبيب الفلسطيني اللجوء إلى بلجيكا, وبالفعل كان له ما أراد، فصحب عائلته ومضى في طريق اللاعودة، لعله هذه المرة يجد "الاحترام" و"الجنسية"، وقبل أن يمضي على دخوله الأراضي البلجيكية الكثير، أرسلت السلطات الهولندية بطلبه، بحجة أنه لاجئ لديها وتريده، فما كان من السلطات البلجيكية إلا أن أعادته إلى المملكة الهولندية، لتدور رحى الحياة المعقدة وتطحن وجوده بين يديها، حيث بسببها تخلص من وثيقة سفره المصرية، كما تخلصت زوجته (روسية الأصل) وأطفاله من جوازات سفرهم الكازاخستانية عندما دخلوا الأراضي الهولندية طالبين اللجوء عام 2007، ليلحقوا بوالدهم بعد ثلاث سنوات من لجوئه إلى هولندا.
عشر سنوات ولا يزال الطبيب كلّاب يراوح مكانه، لم يحظَ بلجوء يحترم عقله ودينه، ولم يجد عدالة في التعامل معه بصفته رب عائلة لاجئة، بل كان يجد تضييقًا في كل شيء، حتى قرر أن يعاود الكرة، ولكن هذه المرة قصد ألمانيا، وهي أيضًا إحدى الدول المجاورة للمملكة الهولندية.
وكما بلجيكا.. قبلت السلطات الألمانية لجوءه وأخبرته أنه مرحب به على أرضها ما لم تطلبه السلطات الهولندية، وهو ما كان يخشاه الطبيب الفلسطيني، الذي قضى عمره مغتربًا ولم تطأ قدماه أرض الوطن إلا في زيارات قليلة أتى بها وهو ما يزال طفلًا.
السلطات الهولندية طلبته، فتم ترحيله للمرة الثانية في سيارات الشرطة وتسليمه للسلطات الهولندية على الحدود، وهناك حدث ما لم يكن في حسبان أي من أفراد العائلة الفلسطينية.
المعاملة القاسية التي تلقتها العائلة من أفراد الشرطة، جعلت الأم تشك في كرم أخلاقهم عندما أخبروهم أنهم سيعيدونهم إلى منزلهم، لكن بسبب حلول المساء وبرودة الطقس، سيبيتون في ملجأ داخل غابة قريبة من الحدود، حتى الصباح.
توجهت الأسرة إلى حيث الملجأ تقلها سيارتا شرطة، وهناك، طلبت الشرطة من رب الأسرة أن يُبقي طفلتيه أسماء (7) أعوام، وآمنة (3.5) سنوات في سيارة الشرطة, بحجة أنها أكثر دفئًا للطفلتين من الملجأ، لتزداد مخاوف الأم التي بقيت تقف على مقربة من سيارة الشرطة التي تقل الطفلتين, وبجوار السيارة تمامًا وقف شقيقهما يونس (14) عامًا.
وما إن انشغل الوالد برفقة محدثيه من الشرطة، بدأت سيارتا الشرطة بالتحرك, وفي إحداهما الطفلتان، فسارع شقيقهما "يونس" إلى اعتراض السيارة ولحقت به والدته لمنع اختطافهما، حيث انتبه عدنان للجلبة وهبّ لنجدة طفلتيه بالوقوف أمام سيارة الشرطة ومنعها من المغادرة، فتجمهر عدد من اللاجئين في الملجأ ما تسبب بوقوف سيارتي الشرطة اللتين طلبتا تعزيزات قوامها 4 سيارات شرطة أخرى.
وكما يقول المثل العربي: "إن الكثرة تغلب الشجاعة"، فهذه التعزيزات أسفرت عنها مشادة كلامية بين الطبيب الفلسطيني ورجال الشرطة الذين فاق عددهم ثلاثين عنصرًا، انتهت بضرب د. عدنان وولديه يونس ونجيب، واستدعاء سيارة إسعاف لتوثيق الحدث على أنه اعتداء على أفراد الشرطة, وغادرت سيارة الإسعاف وسيارة الشرطة التي تقل الطفلتين، بينما بقي كُلّاب وولداه ملقين على الأرض وهم مصابون بعد أن رشت الشرطة في وجوههم الغاز.
الأم تركت زوجها وأطفالها ولحقت بسيارة الشرطة التي تقل طفلتيها إلى أن وصلت إلى أحد المراكز, حيث أودعوا الطفلتين في حجز يفصله عن الصالة الرئيسية في داخل مركز الشرطة حاجز زجاجي أتاح لوالدتهما التي تبعتهما إلى هناك أن تراهما، وتطالب بهما, لكن دموع الطفلتين ووالدتهما لم تشفع لهنّ عند الشرطة الهولندية، والتي قامت بضرب الأم أمام مرأى طفلتيها, وجرّها إلى خارج المركز وهي شبه فاقدة للوعي، وقضت الأم الليلة بكاملها أمام مركز الشرطة.
الطبيب الفلسطيني عدنان كُلّاب، مغترب فلسطيني لا يملك أية أوراق ثبوتية، حياته على المحك وعائلته في مهب الريح، فهل تنتفض له الخارجية الفلسطينية؟ أم مؤسسات المجتمع الدولي التي تدعي حرية التعبير وحق المعتقد الديني لكل إنسان؟ أم يعود إلى غزة على ظهر أسطول الحرية المقبل؟ أم سيطوي التاريخ صفحته ويبقى منسيًا حيث اللاوطن واللاوجود؟!.