كلما خبت نيران الصراع بين السلطة الفلسطينية وحماس وبدت فى الأفق بوادر هدنة لالتقاط الأنفاس، يتأجج لهيبها من جديد بالمناكفات والخلافات والإجراءات المتضاربة التى تهدف لفرض السيطرة والاستفراد بالقرار الفلسطينى، ما يزيد الأمر تعقيداً ومجازفةً بمصير الشعب الفلسطينى الذى ينتظر أمام بوابة المصالحة والعودة إلى المشروع الوطنى الموحد بعيداً عن الانقسام والتفكك، لكن يبدو أن انتظاره سيطول، وحلمه فى تحقيق الاستقرار وقيام دولته سيزول، فالانقسام الجغرافى والسياسى والاجتماعى لا يبدو له نهاية، بل يزداد تعقيداً وابتعاداً فى الوقت الذى لا تجد فيه مخططات إسرائيل لتهويد القدس والضفة الغربية مَن يردعها، بما يعنى تضاؤل فرص إقامة الدولة الفلسطينية القابلة للحياة وتدمير المشروع الوطنى، لكن هذه المرة بأيادٍ فلسطينية خالصة!
الصراع بين الديكة (السلطة وحماس) وصل إلى مرحلة تفريغ المضمون الوطنى من محتواه النضالى، حين قرر كل منهما إقصاء الآخر، بدلاً من خلق قواسم سياسية وطنية مشتركة تعزز الوحدة الجغرافية فى مواجهة المخطط الإسرائيلى، فكانت النتيجة المزيد من الصراع وافتعال الأزمات يمارسها كل طرف على الآخر باقتدار، وجاء تسريب وثيقة مبادئ القسام، الجناح العسكرى لحركة حماس، كضربة استباقية رداً على إجراءات الرئيس عباس العقابية تجاه قطاع غزة، لإحداث فراغ سياسى وأمنى فى القطاع، بهدف قلب الطاولة فى وجهه ووجه إسرائيل والمجتمع الدولى، لتتدحرج كرة النار تحت قدمى «أبومازن» الذى لم ينكر الإجراءات العقابية التى اتخذها فى قطاع غزة، ويعتبرها إشارة واضحة لحماس بضرورة التراجع عن إجراءاتها وحل اللجنة الإدارية المسئولة عن تسيير شئون قطاع غزة، لتمكين حكومة الوفاق من العمل فى غزة، بينما استمرار حماس فى العناد والرفض سيزيد من وطأة الضغوط وتصعيد الإجراءات العقابية، ورغم نفى «أبومازن» أنها موجهة لأبناء القطاع فلمن تكون إذا كان المتضرر المباشر من هذه الإجراءات هم سكان غزة؟
الصدام مستمر، والصراع يشتد، والرئيس عباس يرفض كل الوساطات للتخفيف من أزمات غزة تضييقاً على حماس، ويقرر انعقاد المجلس الوطنى الفلسطينى ظناً منه أن ذلك يعضد من سلطته المتآكلة، ويهدف لتقوية الجبهة الداخلية وتقوية منظمة التحرير الفلسطينية قبيل التوجه للمشاركة فى اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، ليعود اسم منظمة التحرير الفلسطينية يطفو على سطح الأحداث، بعد أن طواها النسيان كممثل فلسطينى شرعى ووحيد لجميع القوى الوطنية والمعترف بها فى دول العالم.
إن حماس تواجه تحدياً كبيراً، فحتى تنضم لاجتماعات المجلس الوطنى لا بد من شروط عليها الالتزام بها مسبقاً وهى: أن تتخلى عن سيطرتها على قطاع غزة، وتحل اللجنة الإدارية، وتمكين حكومة التوافق من العمل بحرية، تلك هى الأسس التى من خلالها تستطيع حماس الانضمام للشرعية الفلسطينية الوحيدة والمتمثلة بمنظمة التحرير، وهو أيضاً سبب قوى دفع اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير بعد مشاورات بالتعجيل لانعقاد المجلس الوطنى كوسيلة للحفاظ على شرعية ووحدة التمثيل الفلسطينى فى وجه تحدى حماس، وبذلك وضع الرئيس «أبومازن» العربة أمام الحصان، فإذا أصرت حماس على موقفها ورفضت شروط الانضمام لانعقاد المجلس الوطنى، فإن هناك صيغة معدة تبحث سبل انعقاد المجلس الوطنى وتجاوز العقبات، وهو ما رفضته حماس وحركة الجهاد الإسلامى، معتبرة أى قرارات ستصدر عن المجلس غير شرعية وترسخ للانقسام، فالرئيس عباس يصر على سياسة الانفصال بين غزة والضفة، والتعامل مع غزة كأنها ليست من الشعب الفلسطينى.
واقع الأمر أن حماس رغم ما تعانيه من ضائقة وضغوط لن تتخلى عما تراه حقاً لها وتريد ضمانات جدية تقدمها السلطة، قبل أن يتم حل اللجنة الإدارية لب الصراع، والتى تدير وزارات ومؤسسات القطاع، والمبادرة التى قدمتها كتائب القسام جاءت رداً على الضغوط التى تحاصر الحركة، ويقال إنها جاءت بالتنسيق مع القيادى الفتحاوى محمد دحلان. إلا أن المبادرة أو الوثيقة كشفت عن أن ثمة أزمة بين القيادات السياسية فى حماس، فجزء من أعضاء الحركة مستاء من هيمنة يحيى السنوار، رئيس الحركة فى غزة، على القرار المدعوم من القسام ومحمود الزهار، خاصة فى ضوء التفاهمات مع مصر ودحلان بمعزل عن محور المكتب السياسى للحركة برئاسة إسماعيل هنية، ويرى هؤلاء أنها مغامرة غير محسوبة من السنوار ستجعل حماس تخسر أهم محاورها الإقليمية (قطر وتركيا)، والتضحية بالعلاقة معهما مقابل تفاهمات مع مصر ودحلان لم تحقق الحد الأدنى من طموح الحركة.
مغزى آخر لمبادرة القسام يهدف إلى توصيل رسالة بأن السنوار يتمسك بتفاهماته مع مصر، لكنها تعبر فى الوقت ذاته عن حالة الاستياء من البطء الشديد لتنفيذ التفاهمات التى تمت، فهناك عدة بدائل لدى السنوار ستخلق أزمة إقليمية ستزعج مصر، لكن دون المساس بالعلاقة معها، وثمة احتمال آخر أن تكون المبادرة مجرد كارت لجس النبض ومراقبة ردود الفعل من الفصائل والنخبة الفلسطينية والمواطنين ستساعد حماس على بلورة موقف ينسجم مع المزاج العام، لكن يبقى الأهم وهو أن المبادرة كشفت عن وجود أزمة داخلية فى حركة حماس على مستوى مكتبها السياسى، وأظهرت حجم الفجوة بين فريقى السنوار وإسماعيل هنية. وأياً كانت النوايا والتكهنات فإن كل ما يدور من صراع على السلطة وتقاسم للأدوار لا ينم عن أى نية من الطرفين (حماس والسلطة) لرأب الصدع الذى شق جدار الوحدة، والشرخ الذى سيهد المعبد، ويعمق من حدة الأزمة، ويبدد أى أمل فى انفراجة قريبة.
عن الوطن المصرية