الجريمة التي وقعت فجر الخميس الماضي، السابع عشر من الجاري، على الحدود بين قطاع غزة ومصر، ليست من نوع الأخبار التي يفترض أن تشغل وسائل الإعلام ليوم أو يومين ثم تنتهي من التداول. هي جريمة كان لها ما قبلها، وستلقي بظلالها شديدة السواد فيما بعدها.
سابقة خطيرة أن يفجر فلسطيني نفسه في حاجز فلسطيني مهما اختلفت أو اتفقت الآراء بشأن طبيعته وانتمائه، ووظيفته، فالأصل أن الجريمة تم ارتكابها بحق فلسطيني آخر، هو اليوم من "حماس"، ولكنه قد يكون غداً، من فصيل آخر، أو من مواطنين يرتادون سوقا أو ناديا، أو يركبون سيارة.
هذا يعني أن "دواعش" غزة لا يختلفون عن "الدواعش" الذين يرتكبون أبشع المجازر، ويمارسون الإرهاب في سورية، والعراق وليبيا، ومصر، وفي دول أوروبا. الوظيفة واحدة، وأشكال تجلياتها مختلفة، برغم اختلاف الظروف، حتى لو كان الهدف شعبا كالشعب الفلسطيني يخضع تحت احتلال بغيض. الدوافع واحدة، حتى لو تعلق الأمر بفلسطينيين يخضعون لحصار ظالم، واحتلال يواصل طبيعته في ارتكاب الجرائم والمجازر، ضد فئة من الفلسطينيين، تمعن في تعذيبهم الأزمات من كل نوع.
يعلم الجميع أن هناك "دواعش"، أو متطرفين تكفيريين في قطاع غزة، كان عدد منهم قد لقوا مصرعهم في أيام سابقة في سورية والعراق ومصر. والجريمة تؤكد أن العناصر المتطرفة، تتسرب إلى خارج البلاد من خلال الأنفاق، قبل أن تُحكم السيطرة عليها حركة حماس، اثر التفاهمات التي جرت في القاهرة.
سكان قطاع غزة الذين يهدهم البؤس والوجع، يعرفون ذلك، ولا يستبعدون أن يأتي وقت، تتناثر أشلاؤهم نتيجة أعمال إجرامية، وعلى أيدي فلسطينيين. يعلمون أن بعض أئمة المساجد، لا يتوقفون عن ضخ خطابات التكفير والتحريض على القتل، وغسيل أدمغة الشباب، وأن رجالات الدعوة السلفية، يجوبون المآتم والبيوت، ينقلون عَبر، خطاباتهم الدينية، فيروسات التطرف.
كل الجماعات والأفراد، الذين يحملون هذا الفيروس، ويتسترون باللحى والجلابيب، ويلهجون بلغة الإسلام، كانوا قد استغلوا سيطرة "حماس" الإسلامية على المجتمع، فقاموا بتحضير الميدان، ومن ضمن ذلك التحريض على "حماس" نفسها، التي تتعرض بدورها للتكفير من قبل "داعش" وأخواتها، لأنها لا تطبق الشريعة الإسلامية، لقد نمت وترعرعت، أفكار التكفير والتطرف في بيئة مواتية تماماً، حيث الفقر، والعوز، والحرمان، واليأس، وقلة الحيلة. عشرات آلاف الشباب من الخريجين العاطلين عن العمل كانوا صيداً ثميناً لدعاة التكفير والتطرف، بعد أن أغلقت أمامهم السبل، وانسدت آفاق المستقبل.
كبيرة المصيبة التي تشير إليها جريمة فجر الخميس المنصرم. ولكن درسها الأساسي ليس جديداً بمعنى أن جماعات الإسلام السياسي التكفيرية والمتطرفة، تتجنب تماماً أن تضع إسرائيل ضمن أولوياتها المستهدفة. أن تحظى إسرائيل بالحصانة فهذا ليس بسبب مناعتها الأمنية، فلقد ضرب الإرهاب في مدن ودول تحظى بقدرات أمنية ولوجستية مهمة، كالولايات المتحدة، وألمانيا وفرنسا، وبريطانيا ومؤخراً برشلونة الإسبانية. وبعد سنوات من نشاط تنظيم الدولة في عديد الدول العربية لا يمكن لأحد أن يقبل الادعاء الذي يقول إن الدور قادم على إسرائيل.
هل يريد "الدواعش" أن يحرروا الوطن العربي، والعالم مما يدعون من أنهم أهل الكفر والمظالم، حتى يستديروا نحو إسرائيل دولة الإرهاب، والاحتلال والعنصرية؟ تشي الجريمة التي وقعت على الحدود مع مصر، بحق عناصر من الضبط الميداني، بأن حركة حماس جادة في الالتزام بالتفاهمات التي أبرمتها في القاهرة، وأن جدية إجراءاتها، كانت العائق أمام تسرب عناصر "داعش" عبر الحدود إلى سيناء. هذا صحيح وملموس من قبل سكان القطاع، خصوصاً في المناطق الجنوبية، وثمة ارتياح من قبل الجانب المصري لما قامت وتقوم به حركة حماس من إجراءات ضبط غير أن مسؤولية حركة حماس لا تقف عند هذه الحدود، ولا تقف حتى حين تقوم بملاحقة واعتقال عدد من المشتبه بهم، على اعتبار أنه لا توجد جماعة أو تنظيم متبلور ومعروف في القطاع.
حركة حماس نفسها عليها أن تراجع خطابها وتعبئتها الداخلية، وسلوكها الوطني العام، فهي قد وقعت في خطأ التعبئة التكفيرية في وقت سابق، فضلاً عن أنها أفسحت المجال لمن يبثون هذا الخطاب في المساجد. وعملياً فإن سلوك "حماس" الذي يرفض حتى الآن عملياً، مبادئ الشراكة الوطنية، والقبول بالآخر، وبإجراء الانتخابات في النقابات والمجالس الطلابية والاتحادات الشعبية، هذا السلوك الذي لا يزال يحظى بكثير من الكلام والادعاء، ولا شيء في الممارسة، إنما ينطوي على تعميم لثقافة، تنتج أفكاراً متطرفة.
لا حاجة بنا للعودة إلى سنوات سابقة، حين نشطت جماعات الدعوة، لأسلمة المجتمع، ومحاصرة ما يعتبرونه مظاهر العلمانية حتى طال الأمر التراث الشعبي والثقافي الفلسطيني، وهو أمر خفّت حدّته منذ بعض الوقت. "حماس" تحتاج إلى مراجعة ذاتية وتحتاج إلى تعاون وتكاتف وطني لمحاصرة أفكار وظواهر التطرف، قبل أن تستفحل فتأتي على الأخضر واليابس، خصوصاً وأنها استناداً لأولويات هؤلاء، ستكون مستهدفة قبل غيرها. إن أرض الأديان السماوية، وشعب التسامح، لا يمكن أن يكون ضحية لأفكار مستوردة غريبة عن ثقافته وتاريخه، ولكن المسؤول عليه أن يتحمل مسؤولياته قبل فوات الأوان وقبل أن يصبح شعبنا مضغة لكل من أراد أن يلصق به تهمة الإرهاب والتعصب والتطرف.