مأكولات ومشروبات كثيرة اكتشفها الإنسان بالصدفة، أو بقليل من التفكير، أو بتجارب بسيطة متتابعة.. إما تحت إلحاح الجوع، أو لإشباع رغبة ما، أو من باب الفضول والتجريب.
يقال إن إمبراطور الصين هو من اكتشف الشاي في قديم الزمان، وحسب الحكاية الشعبية؛ كان الإمبراطور يحب شرب الماء الساخن، وذات ظهيرة، بينما كان مستلقياً في أفياء قصره، يفكر في شؤون الحكم والحروب، سقطت بضعة أوراق من شجيرة الشاي في إنائه الممتلئ بالماء الساخن، فغيرت لون الماء وطعمه، رغب الإمبراطور بتجربة الطعم الجديد، فراق له، ثم أمر أعوانه بالاهتمام بهذه الشجيرة، التي أصبحت مصدر المشروب الأول في العالم.
ويُقال أيضاً إن أول من اكتشف القهوة راعٍ يماني يدعى الخالدي، وإنه بينما كان يرعى أغنامه، لاحظ نشاطها الزائد كلما تناولت من تلك الشجيرات الخضراء ذات الثمار الحمراء الداكنة، فأثار الأمر فضوله، فتناول بنفسه بضع حبات منها، فشعر بنشاطٍ ورغبة في الحركة، فغلاها بالماء، فزادت قدرته على السهر. وهكذا بدأت قصة القهوة.
وأيضا النبيذ، تم اكتشافه بالصدفة، عائلة ما (ربما في الجليل) فاض لديهم منتوج العنب، فقاموا بعصره، ولما تأخروا في شربه لاحظوا تغير طعمه (تخمّر من تلقاء نفسه)، ولاحظوا أثره على الحالة النفسية، وكانت نقطة البداية لتطور صناعة الخمور بأنواعها.. ونفس العنب أخذ مساراً آخر، فتحول إلى زبيب، كما تحول التين إلى قطين.. لم يحتج الأمر سوى التجفيف.
أما أنواع الطبيخ، فلها حكاية مشابهة؛ يقال إن راعيا كنعانيا جمع أوراق الخبيزة، ثم سلقها بالماء فأحب طعمها، ربما كانت في تلك الأيام تعادل البيتزا حاليا.. ويُعتقد أن رعاة من القبائل المجاور جمعوا أنواعاً أخرى من حشائش الأرض وخيراتها، وأعطوها لزوجاتهم لإعداد وجبات جديدة تفوق الخبيزة طعما ومذاقا.. فما كان منهن إلا أن اخترعن الباميا، والفاصوليا واللوبيا والبازيلاء، ثم في مرحلة لاحقة أمكن التوصل لوصفة الملوخية، والسبانخ.. ومع الوقت كانت النسوة يتنافسن فيما بينهن على تحسين المذاق، بإضافة الملح، وما توفر من بهارات ومحسنات للنكهة.
لم يكن الملح قديماً متوفراً بسهولة، وكان استخدامه حكراً على علية القوم.. وكان أغلى من الذهب، ويصلح لمقايضة أثمن المقتنيات.. كذلك التوابل، كانت تأتي من الهند والصين عبر طريق الحرير الطويل.. وكانت باهظة الثمن.. أما البندورة والبطاطا فلم تصل إلى منطقتنا، بل إنها لم تغادر موطنها الأصلي في «البيرو» إلا قبل قرن من الزمان على أبعد تقدير.. ولعلكم لاحظتم أن مكونات الأطعمة المطبوخة كانت تخلو تقريبا من الملح والبهارات والبندورة.
إذن، وجبات الأطعمة المختلفة بدأت بسيطة جدا، أعشاب أو ثمار مسلوقة بالماء، أو تقدم جاهزة، وشيئا فشيئاً أخذت تدخل عليها مكونات أخرى بخطوات تدريجية متصاعدة، إلى جانب الملح والبهارات، ثم تطورت مع تراكم الخبرات واكتشاف خضراوات وأعشاب وتوابل جديدة، ومع مزجها معا، وبالتجربة، ومراكمة الخبرة، بدأت الوجبات تأخذ أشكالاً أكثر تعقيداً، حتى وصلت إلى ما هي عليه الآن، وصار بوسع أي طاهٍ، أن يضيف بهاراً جديداً، أو يختصر خطوة، أو يزيد مكوناً.. وما عليه إلا أن يختبر الطعم الجديد.. فيحصل على وجبة جديدة، وبهذه الطريقة أصبح لدينا ما لا يمكن حصره من الأطباق..
بعض الأطباق ظلت بصورتها البدائية، وعلى مدى آلاف السنين تطورت بشكل طفيف جدا، أنواع البهارات وطريقة الطبخ، أما المبدأ فظل كما هو تقريبا، اللحم والسمك والدجاج المشوي مثلا.
لكن أنواعا أخرى لم يكن ممكنا التوصل إليها قبل الاهتداء للخطوات السابقة، مثلا الكباب لم يكن ممكنا معرفته قبل اختراع آلة لفرم اللحم.
طبق المسخّن، لم يكن ممكنا اختراعه قبل اختراع معصرة الزيت، وكذلك فإن التوصل للباشميل احتاج قبلها إلى اختراع أنواع معينة من الجبن.. المنسف صار ممكنا بعد أن عرف الإنسان طريقة زراعة الأرز وتصنيعه (ربما في الصين)، وبعد أن عرف كيفية تحويل الحليب إلى لبن رايب (ربما في جنوب أوروبا)، وكيفية سلق اللحمة حتى تنضج، وهذه الخطوة بالذات بدأت في وقت مبكر بعيد اكتشاف النار بقليل.. ويقال إن ملك مؤاب الأردني الذي ناصب الغزاة الإسرائيليين العداء في القرن الثامن قبل الميلاد، أمر بإعداد وجبة تجمع اللبن واللحم والأرز نكاية بأعدائه.. فكان المنسف.. وعلى مقربة منه طوّر الفلسطينيون طبخة منافسة باستبدال اللبن المطبوخ بما توفر من خضار، وبالتجربة تم استبعاد أنواع معينة من الخضار، إلى أن تم اعتماد الباذنجان والزهرة.. لطعمهما المميز مع الأرز.. وهكذا صارت المقلوبة..
أما الحلويات، فلم يكن ممكنا الاهتداء إليها إلا بعد أن وصلت المجتمعات إلى درجة الاكتفاء من المأكولات العادية، وصار لديها ترف الوقت والاختيار..
أعقد وأصعب الوصفات صارت ممكنة اليوم، لأنها بُنيت بطريقة متسلسلة منطقية، استغرقت آلاف السنين.. وكل شعب اتخذ مسارا تطويريا مختلفا لمطبخه.. لكنها جميعا بدأت بطرق غاية في البساطة.. ثم تطورت لاحقا.. كل هذا منطقي ومستوعب وقابل للفهم.. إلا رغيف الخبز..
رغيف الخبز الوجبة الأساسية لمعظم شعوب الأرض، وهو غاية في البساطة الآن، لكن الوصول إليه في مرحلة ما كان غاية في التعقيد.. لأنه يتطلب خطوات كثيرة متصلة ببعضها.. وتحتاج إلى عبقرية خاصة.. ولا يمكن أن تعتمد على الصدفة..
عرف الإنسان الخبز منذ فجر التاريخ، وكان يخلط الطحين بالماء ويتركه في الشمس حتى يجف تماما. ولكن، كيف ولماذا وقع الاختيار على القمح (والشعير)؟ ومن الذي اعتقد حينها أن تلك الحبات الصغيرة المخبأة في سنابل هزيلة يمكن طحنها والاستفادة منها؟ من الذي آمن أن جمع الكثير من تلك السنابل سيوفر كميات كافية للطحن؟ من أين لهم مطحنة في ذلك الزمن الغابر، ولم يكونوا قد غادروا عصر الجليد إلا منذ سنوات قليلة؟!
من الثابت علميا أن موطن القمح الأصلي سهول أريحا على ضفاف نهر الأردن، وأن أهلها عرفوا كيفية حصاده وطحنه قبل أن يكتشفوا سر زراعته، قبل نحو 12 ألف عام، ويقال أن امرأة كنعانية هي التي فكرت بإضافة الماء للطحين، وأنها لاحظت تكون العجينة بعد ساعات، ثم أدخلت قرص العجين إلى الطابون، وأعدت أول رغيف ساخن.. ربما كان اسمها رحاب، لكن من المؤكد أنها بذلك أطلقت الثورة الزراعية، ودشنت عصر الصناعات الغذائية.