الترهات التي أطلقها وزير الاستثمار السوداني فاضل مبارك، نؤمن تماماً أنها لا تعبر عن ذاته المريضة والمشوهة، فلا أهل السودان مثله، ولا تاريخهم، ولا تضحياتهم، ولا مواقفهم تشبه مواقف هذا الرجل الذي هو ليس بالفاضل ولا المبارك أيضاً.
ذلك أنه يقول أن الشعب الفلسطيني هو الذي باع أرضه، وفي هذا قتل للرواية التاريخية وتعدٍ عليها، وهو بذلك يثبت جهله في التاريخ أو عماه أو ضلاله، والأهم من ذلك، أنه يتفق مع الرواية الصهيونية، ولا يهمنا ذلك، فهناك الكثير من الصغار والجهلة والمتعاونين والأبواق، الذين يؤيدون الدعاية والرواية الصهيونية، هذا لا يهمنا حقاً، ولكن ما يهمنا هو أن ما يقوله هذا الوزير إنما يؤسس ويعمق تياراً أو ظاهرة مقلقة وبالغة السوء والوقاحة في العالم العربي، حيث تتمثل هذه الظاهرة بتحقير الفلسطيني وإهانته وتحميله مسئولية عذاباته وهزائمه واحتلاله وغياب دولته وعدم تجسيد حقه، هذه الظاهرة تتمثل في إهانة الضحية وتحميلها المسئولية عن مصيرها وليس عن حاضرها فقط، هذه الظاهرة ليست سيكولوجية في عمقها ولا في مظهرها، وإنما هي سياسية بالدرجة الأولى، إذ أن هذه الظاهرة مقدمة ضرورية – على ما يبدو – للتطبيع المجاني مع إسرائيل، ومحاولة تبييض الوجه أمام أمريكا من خلال البوابة الإسرائيلية، ورغبة في النجاة من البلطجة الأمريكية الجديدة، واحتماء بالاستعمار من خلال التبرؤ من القضية الفلسطينية وشعبها وأحمالها وضرائبها، وهي أيضاً نوع من تبرؤ أنظمة وأحزاب وحركات، وحتى جماعات، من تبعات الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، هذه الظاهرة تعبير عن الخوف والرعب والبحث الرخيص عن النجاة من العقوبات أو الحصار أو الضرب أو التجريد من الشرعية.
فهذا الوزير السوداني، غير الفاضل وغير المبارك – على سبيل المثال لا الحصر – إنما يدفع ثمن سياسات جديدة يتقرب بها من إسرائيل لترضى عنه الولايات المتحدة، حتى لا يقدم البعض للمحكمة الجنائية، وحتى يحظى ببعض القبول الدولي، ولا نريد هنا أن نفتح كتاب السيئات السوداني، ابتداءً من سلخ جنوبه عنه، وإثارة المشاكل مع الجار الشمالي، وغض الطرف عن عمليات الموساد الإسرائيلي على أراضيه، وهو ما يذكر "بسيئات" الراحل جعفر النميري الذي أسهم في عمليات نقل الفلاشا إلى إسرائيل فيما عرف بعملية موسى أوائل الثمانينات.
ما نريد أن نقوله أن تفوهات الوزير السوداني، غير الفاضل وغير المبارك، تشبه تصريحات وزراء عرب آخرين وزعماء معارضة "وثوريون" وجنيرالات وسفراء وكتاب ومثقفون وصحفيون، سمعناهم وقرأناهم، ونعترف أن القلب احترق لما سمعناه، فهذا ذروة الهزيمة والذل والخسران، فهذه المواقف لن تنجيهم ولن تكسرنا، ولن تحميهم ولن تثبطنا، فنحن الذين في أكناف بيت المقدس، لا يضرنا من عادانا، ونحن على الحق قائمين، هذا ما قاله سيد الخلق، وبالتالي، فإن ما يقوله هؤلاء هو تعبير عن هزيمتهم هم، هزيمة نظامهم وشرعياتهم، لا هزيمة ثقافتنا ولا قلوبنا.
وعلى الرغم من غضبنا وأسفنا الشديد لما نسمع، إلا أننا نطلب من المستويات الفلسطينية كلها، السياسية والإعلامية والثقافية والنقابات والاتحادات أن تعلي الصوت بالرفض لهذه الظاهرة المهزومة، لنعلي الصوت جميعاً، لنقول للوزير السوداني وغيره من الوزراء الذين تفوهوا بمثل ما تفوه به أو لأولئك الذين قد يتفوهون، نقول لهم أجمعين: نحن نعرفكم واحداً واحداً، ونعرف أهدافكم، ونعرف توجهاتكم، ونعرف خوفكم، ونعرف أن هذه الظاهرة تريدون منها اسقاط حل الدولتين، والتطبيع المجاني مع المحتل، وأنكم تمهدون الطريق – إعلامياً وسياسياً – لنسج علاقات علنية مع إسرائيل دون الفلسطينيين، أو حتى التشاور والتنسيق معهم.
ونقول بعالي الصوت: هذه الظاهرة مهزومة وفاشلة، ولن تؤدي لشيء أبداً، ذلك أنكم لا تعبرون عن شعوبكم، ولا تعبرون عن ثقافة المنطقة، ولا تعرفون تاريخ البلاد ولا العباد، كما أنكم لا تعرفون الشعب الفلسطيني الذي ما باع ولا هان وما لان، والذي قاوم ولم يساوم، هذه ظاهرة فاشلة لأنها تتخلى عن الذي هو خير بالذي هو أدنى.
الشعب الفلسطيني صبور وكريم وشجاع، ولأنه كذلك، فإنه يكتفي حتى اللحظة بالنصح والإرشاد، لأننا نعرف تماماً بأن الشعب السوداني بعمّاله وفلّاحيه ومثقفيه، ومن قواه الوطنية، لن تسمح لهذا الصوت النشاز بأن يسود، ونحذركم بأن لا تراهنوا على صبر شعبنا وحكمة قيادتنا، وإننا لقادرين على درء الفتنة ومواجهة المؤامرة المسماة بالحل الإقليمي أولاً.