حصيلة المعطيات السياسية ما بين الحرب الباردة وثورة الربيع العربي (1)

حمادة فراعنة.jpg
حجم الخط

سجلت نهاية الحرب العالمية الأولى عام 1917، ولادة أول بلد اشتراكي في العصر الحديث وهو الاتحاد السوفياتي الذي فضح وكشف ونشر وثائق "سايكس بيكو" البريطانية الفرنسية في التآمر على العالم العربي وتمزيقه إلى دول ضعيفة محدودة الموارد، وتوزيع هيمنتها عليه، كما سجلت نتائج الحرب العالمية الثانية عام 1945، ولادة المعسكر الاشتراكي مع بلدان أوروبا الشرقية والصين الشعبية، على إثر انتصار بلدان التحالف بقيادة الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، على بلدان المحور.
وقد أدت نتائج تلك الحرب إلى تعزيز تطلعات شعوب بلدان العالم الثالث نحو الحرية والاستقلال، ومنها الشعوب العربية التي ناضلت من أجل التخلص من نير الاستعمار الأجنبي والاحتلالات البريطانية والفرنسية والايطالية، ولكن على الرغم من زوال الاحتلالات العسكرية عن غالبية البلدان العربية، باستثناء فلسطين، فقد أخفقت حركة التحرر العربية في قيادة الشعوب العربية نحو إنجاز تطلعاتها إلى تحقيق:
1 - الاستقلال السياسي والاقتصادي. 2 – توفير العدالة الاجتماعية. 3 – تحقيق الديمقراطية، 4 – إنجاز الوحدة العربية. ولذلك بقيت أغلبية البلدان العربية أسيرة للقرار السياسي والاقتصادي الذي تتحكم به الدول الرأسمالية المتطورة، وفي طليعتها الولايات المتحدة وأوروبا، وبسبب ذلك الإخفاق وتبعاته يمكن تصنيف البلدان العربية لثلاث مجموعات رئيسة كما يلي:
المجموعة الأولى: البلدان العربية التي تحتاج للمساعدات المالية والاقتصادية وهي: موريتانيا والمغرب وتونس ومصر والصومال والأردن ولبنان واليمن، التي تتلقى المنح والقروض والمساعدات من قبل الولايات المتحدة وأوروبا واليابان، ولذلك يمكن الحكم على سياسة وخيارات هذه البلدان على أنها تستمع للنصائح الأميركية الأوروبية، وتجد من الصعوبة التخلص من نفوذ ومطالب البلدان المانحة، أو التصادم مع سياساتها ومصالحها، وغالباً ما كانت تنحاز لها أو تتحالف معها، في الصراع بين المعسكرين اللذين تشكلا بعد الحرب العالمية الثانية.
والمجموعة الثانية: هي تلك البلدان التي لا تحتاج للمساعدات المالية، ولكنها تحتاج للحماية الأمنية والعسكرية وهي دول الخليج العربي الست الثرية: السعودية والكويت وقطر والإمارات والبحرين وعُمان، ولأنها كذلك فهي أيضاً تستمع لنصائح دول الحماية الأميركية والأوروبية، وعملت سياساتها على الأغلب وفق المصالح الأميركية الأوروبية وخياراتها الدولية.
أما المجموعة الثالثة: فهي تلك البلدان التي لا تتلقى المساعدات المالية، ولا تحتاج للحماية الأمنية، ولكنها تسعى لإخراج اسمها من قائمة البلدان الشريرة المتطرفة والراعية للإرهاب وفق التصنيفات الأميركية، والمتصادمة مع سياساتها، وهي: الجزائر، وليبيا معمر القذافي، والسودان، وسورية، وعراق صدام حسين، ومنظمة التحرير الفلسطينية.
على ضوء هذه القراءة واستخلاصاتها يمكننا الاستدلال على سياسات المجموعتين الأولى والثانية التي اتسمت مواقفها بالتحالف مع المعسكر الرأسمالي، والانحياز للسياسات الأميركية الأوروبية طوال مرحلة الحرب الباردة، في مواجهة الاتحاد السوفياتي والمعسكر الاشتراكي، والنيل من الاتجاهات اليسارية والقومية الناشطة في هذه البلدان، والعمل ضد بلدان المجموعة الثالثة، وتقويض قدراتها واستنزاف مواردها، وعليه انتهت الحرب الباردة مع بداية التسعينيات وهزيمة السوفيات في أفغانستان، وسجل عام 1990 على أنه محطة فاصلة بين عهدين على المستوى العالمي، ونهاية الحرب البادرة بين المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي، اللذين طبعا صراع الحركة السياسية بين بلدان العالم لأكثر من أربعين عاماً بعد الحرب العالمية الثانية، كان نتيجتها انتصار المعسكر الأول وهزيمة المعسكر الثاني، وقد برزت أهمية تلك النتائج بانعكاساتها السلبية المباشرة على المشهد السياسي في العالم العربي، وحصيلتها المدمرة تراجع حركة التحرر العربية وانحسار أحزابها اليسارية والقومية والليبرالية التقدمية، فيما تقدمت الأحزاب الأصولية، واتسع نفوذ التوجهات الإسلامية المحافظة التي سبق وأن تحالفت مع المعسكر الرأسمالي طوال فترة الحرب الباردة، فقويت بانتصاره على حساب التيارات السياسية الأخرى ومكانتها.

الحصاد المر ونتيجته الأولى على العراق
وسجل العراق على أنه أول المتضررين من نتائج الحرب الباردة بهزيمته وحصاره واحتلاله وإسقاط نظامه القومي، على إثر مغامرته الخاطئة في الكويت يوم 2/8/1990، والتي عمقت من إخفاق التوجهات القومية، ونموذجها الصارخ حفر الباطن، التي دمرت فكرة الأمن القومي المشترك، بسبب مشاركة بلدان عربية وخاصة من قبل مصر وسورية في الحرب على العراق بقيادة الولايات المتحدة، مثلما أدت تلك النتائج إلى بروز تنظيمات وأحزاب التيار الإسلامي، وفي طليعتها حركة الإخوان المسلمين، وأحزاب ولاية الفقيه، التي شاركت في معركة احتلال العراق، جنباً إلى جنب مع الدبابة الأميركية، ومشاركتها في الحكم في عهد الحاكم الأميركي للعراق السفير بول بريمر.

فلسطين الحلقة الثانية
وسجلت القضية الفلسطينية على أنها الحلقة الثانية المستهدفة ودفعت ثمن تلك النتائج، حين سارع جيمس بيكر وزير خارجية الرئيس بوش الأب للعمل حثيثاً على جمع أطراف النظام العربي مع حكومة المشروع الاستعماري التوسعي الإسرائيلي، برئاسة إسحق شامير، على طاولة واحدة في مؤتمر مدريد يوم 30 تشرين الأول 1991، بهدف إنهاء الصراع العربي الإسرائيلي، والدفع باتجاه التوصل إلى تسويات فرعية لجذر هذا الصراع، وذلك عبر فكفكة ملفات الصراع، وعزل كل بلد عربي عن الآخر، عبر مسارات تفاوضية منفصلة عن بعضها كل منها بمسار تفاوضي غير مرتبط بغيره، وكان أول من توصل إلى أجندة التفاوض الجانب الأردني في شهر كانون الأول 1992، وتلاه الجانب الفلسطيني في التوصل إلى اتفاق أوسلو في شهر آب 1993، والتوقيع عليه في حديقة الورود للبيت الأبيض يوم 13/9/1993، والتوقيع الأردني الإسرائيلي في اليوم التالي 14/9/1993، بينما بقي المسار السوري الإسرائيلي معلقاً، دون أن يحقق اختراقاً تفاوضياً بين الجانبين، حتى يومنا هذا!

الأردن الحلقة الثالثة
وسجل الأردن نفسه على أنه المتضرر الثالث، دافعاً ثمن الحصاد المر لنتائج الحرب الباردة وتداعياتها، حربي الخليج المدمرتين الأولى 1991 والثانية 2003، فمن جهة سجل الملك الراحل الحسين موقفاً مشرفاً نستطيع المباهاة به تاريخياً، عبر قراره الشجاع بعدم الذهاب إلى حفر الباطن، تحت الراية الأميركية، وعدم المساهمة في ذبح العراق لإدراكه المسبق للنتائج الوخيمة لتدمير قدرات العراق وزعزعة استقراره، في التصدي للنزوع القومي الإيراني وتطلعاته التوسعية أولاً، وفي مواجهة العدو القومي الإسرائيلي ثانياً، الذي لعب دوراً أساساً ومركزياً عبر اللوبي الصهيوني اليهودي المتنفذ في التحريض الأميركي على العراق واحتلاله وإزالته كظهير للجبهة الشرقية في وجه العدو الإسرائيلي، ويمكن تسجيل خسائر الأردن بالعناوين والنقاط التالية:
أولاً: تم استبدال الدور التنموي الأردني لدى بلدان الخليج العربي، بالدور السوري والمصري المشترك في الحياة المدنية، وبالدور الأميركي المباشر عسكرياً وسياسياً، ما أفقد الأردن أهم روافعه المادية المالية والاقتصادية والاجتماعية، فازدادت أعباؤه الداخلية، وتفاقمت أوضاعه الافتصادية والاجتماعية، من خلال تقليص حجم العمالة الأردنية لدى بلدان الخليج العربي واستبدالها بالعمالة السورية والمصرية، وقد سعت دمشق والقاهرة في ذلك ليرثا الدور الأردني المؤثر لدى بلدان الخليج العربي عبر قمتي دمشق آذار 1991، والرياض أيلول 1991، تحت مسمى الستة + اثنان، أي بلدان الخليج العربي الستة السعودية والكويت والإمارات وقطر والبحرين وعُمان من جهة، وسورية ومصر من جهة أخرى، وفي القمتين تم العمل على خلق تحالف بين البلدان الثمانية في مواجهة الأطراف العربية التي استنكفت عن المشاركة في حفر الباطن.
ثانياً: المشاركة في مؤتمر مدريد في 30/10/1991، وفرض التوصل إلى معاهدة السلام الأردنية الاسرائيلية والاعتراف المتبادل دون تحقيق المطالب الأردنية، ودون إنهاء تداعيات حالة الحرب في مسألتين: الأولى ضم مدينة القدس الشرقية لخارطة المشروع الاستعماري الإسرائيلي عام 1980، والثانية عدم عودة النازحين الذين رُحلوا بسبب حالة الحرب عام 1967، وكان لهذين العاملين الأثر السلبي المباشر لبدايات المأزق الأردني وتداعيات الأزمة الافتصادية والاجتماعية التي نواجهها إلى اليوم، فقد كان من المفروض ألا يقع الاعتراف المتبادل قبل إلغاء ضم القدس الشرقية المحتلة عام 1967، حين كانت جزءاً من المملكة الأردنية الهاشمية، وثانياً كان يجب عدم إنهاء حالة الحرب دون الإقرار بحق عودة النازحين الذي هُجروا إلى الأردن بسبب تلك الحرب وآثارها التي ما زالت قائمة حتى يومنا هذا منذ العام 1967.