الوطن ذرات رمل ذهبية ناصعة، وبحر ذو حضن واسع، وجبل ينافس جبل فيشير لنا من البعيد أن أقبلوا، وشجرة جميز حانية ونخلة أدمنت الاثمار والسخاء في غابة الجوافة اوالزيتون والعنب.
الوطن رغيف خبز ساخن "مقحمش"لا يقدر بمال ، للتو خرج من طابون ستي في سلفيت مع صحن زيت بكر وفحل بصل، وحبة بندورة بلدية.
الوطن بداية حياة حافلة، ونهايتي التي لا أختار سواها حين تنهار القلعة ، وهو أُلفة طريق والتفاتة صبية مشدودة ممشوقة تتمايل في شارع مزدحم، وهوبياض الثلج حين تبكينا السحابات الشقية في الشتاء الأمين.
وطني نسمة صيف باردة ترفع الراية البيضاء، وهو اعلان حرب على الحزن المعتق والعويل وحقد الدخيل، هو بيت سميح مكلل بالعقيق والدخان ومحفوظ بالعيون السمراء الواسعة، والشعر العربي المنسدل لفرس صهباء أشعرتني بالجنون.
الوطن حنّاء الجدات الراقدات في أثواب الارجوان وسواد ليلة المحاق، وحِداء عازف الناي في موسم القطاف السائد في فلسطين.
وطني نظرة أبي الحائرة والغاضبة حين يشم رائحة التبغ الباغية، وأنا أخفي "السيجارة" عنه وراء ظهري بصعوبة لعلي أنجو.
الوطن نظرة نبيل في تحدي واصرار وعناد في وجه جندي مارق وصهيوني سارق، ومستعمر أثيم سيزول مع الفجر.
الوطن انتقاء الطهارة واعتناق القيم منذ كنعان الاول والفلستيين (الفلسطينيين) العرب، والتغالبة المسيحيين ورجالات عمر بن الخطاب.
وطني أنا مجموعة أيدي، فهو يد معلمي الوضاح حين يرفعها في وجه الخطأ، ويد أبي حين يشير لشجرة اللوز وزهر البنفسج وفراشات الحقل القريب ، ويد أمي حين تلتف حول عنقي بحنين، ويد ابنتي الصغرى تمسكني بيُمناها وتلعب بيسراها بعروستها ذات الثوب الاخضر المزخرف بالياسمين والحلم ونشوة القادمات.
وطني أنا قلب حبيبي ووله عيون البرتقال، وجهاد يومي الطويل حتى تصرخ قدماي، او حين يصيح الديك فجر يوم السبت الأول بعد رحيل حبيبي تختطفه القضبان.
وطني أنا يد القدر، ويد الندى على بتلات الزهر، ويد سائق "الفورد"(الحافلة الصغيرة) تشير بشغف لنبع قديم خلف التلة، وأفراح خالتي وأبنا العمومة وصديقي جبرا، وهو عزاءات المقبرة النظيفة أبدا نزورها كلما تحجرالدمع بالعيون أو شعر القلب بوطأة الظُلمة.
الوطن شهقة طفل حين الولادة وابتسامة أختي الكبرى ومداعبات أمي الأثيرة لشعري، وحفيف شجرة التين في صيف النضوج.
الوطن كلمات خطيب أديب اعتلى المنبر في قريتنا فعلمنا معنى الاستجابة بحُسن الدعا، وهو خطاب رئيس البلدية حين قدم لأغنية "غزة يا غزتنا" و"حيفا ويافا بلادي" و"عنب يا خليلي" و"وين ع رام الله" في مهرجان المشمش.
الوطن عندي ليلة أبيتها بوداعة عند نبع ماء أو على سطح البيت رغم سنا البرق، أو في سويداء العبير، تحت سقف الرجاء.
وطني شعور غامر بالنعيم يخامرني حين أقبّل حجارة الناصرة، أوضريح عمّي الشهيد، او حين تغمرني السعادة والبهاء والنور في حضرة ياسر عرفات ومحمود درويش وعزالدين القسام وظاهر العمر الزيداني والامام الشافعي،او قرب كنيسة القيامة او فوق أسوار القدس او في ساحة مسجد جمال عبدالناصر، ودوار مانديلا، وفي شارع عمر المختار وعند المسجد العمري، وتحت شجرة عاشقة في دير البلح وصديقتها في يطا أو دورا أو اللد وربما في طبريا.
الوطن عيون حمراء متقدة في مواجهة الغرباء المارقين، وأيدي حانية بين الأصدقاء.
الوطن عين مغمضة عن أي اساءة من الأبناء، وعيون مفتوحة لا تقبل الضيم ولا ذل العابرين فترسم القدس في قلبها ورفح وبير السبع وايلات وقلقيلية وبيت لاهيا وجباليا والجليل.
الوطن رائحة الزعتر الصاعدة، و"طشة" الثوم المقلي على الملوخية، و"دوشة" محل ملك الفلافل في طولكرم او جنين، وملك الكبدة في غزة او خانيونس، وهو "تمرية" نابلس وكنافتها وطيب أهل السواحل والتلال الخضراء منها والمجاورة لاريحا وطوباس والخليل وبيسان وبرية التعامرة.
الوطن أنا وأنت وخالد ومفيد وانور وجورج وبطرس ومحمد وسعاد ونبهان وطارق وسفتلانا وفيوليت وفاطمة وماريا.
الوطن يدٌ قابضة بمهارة على جمر العشق الأبدي وأيدي متشابكة تبني، فتهدم جدران الكراهية.
الوطن ليس حفنة تراب فقط، وما هو حِمْل بعير، ولا هو نوم هانئ ليلتين بعد تعب سفر طويل عبر التاريخ أو في دهليز روحي أو بالالتفاف حول جدار "الضم والتوسع" العليل.
الوطن شقاء وفرحة مما لاتحتمله قلوب الواجفين من الدهماء.
انه هو ، وطني كل ما سبق، وما لا يُحصى من الأعمال الناجزات والحجارة والذكريات وارث أسلافي والصلوات والابتهالات والدموع والآمال والضحكات، وما يحتاج لمصباح في القلب لا ينطفيء لأنه كلما خبا نوره -او كاد- يجد من الزيت الكثير ، فنحن زيت فلسطين.