القصص الفلسطينية لها بقية دائماً، بلا خاتمة عادة. القصص تستكمل نفسها من ذات القماش، القصص الفلسطينية تتحرك بموجب آليات طبيعية، قصة تبدأ جُمَلُها على الأغلب بفعل المُضارع، مستمرة ومتوارثة.
تخصيص ميدان باسم الشهيد «خالد نزال» في مدينة جنين خطوة لها ما بعدها، هدف ابتغيته وانتظرته سنوات وسنوات. القرار الذي قبضت عليه يستحق أن يُعطى كل جهد ممكن وطاقة متوفرة. رأيت في خيالي التصميم الذي يشبه «خالد» ويعود به إلى الأرض؛ التي استحقت تضحيته بما يملك، الحياة.
يقودني التصميم إلى جامعة «بيرزيت»، نصيحة تقدمها صديقتي المهندسة المحاضرة في الجامعة. تقول: إن تحديد تقنية وأسلوب البناء والمواد المستخدمة لا بد لها أن تعكس الشخصية والهوية والخصوصية الثقافية الجمعية، رؤية وقصة الشعب في الميادين والنصب والعمارة والجسور والمتاحف والفنادق.
الأساتذة الشباب يجمعونني بطلابهم، ثمانية عشر طالباً وطالبة في السنة الثالثة من كلية الهندسة المعمارية..يقدمني المعيدان «فائق ويوسف» إلى الطلبة، يطلبون منهم تحويل طاقة الكلمات وحرارتها إلى طاقة حركية، رسوم ونحوت تحرك المشاعر. تتحرك الأقلام لكتابة الملاحظات، صنع خطوط ودوائر وترانيم وأحجيات وفضاء مفتوح.
أمامهم أقف، في المحاضرة المخصصة للبحث في فكرة التصميم، غرابة المحاضرة تحول قاعة الدراسة إلى مكان يشبه المعبد. صمت يلفُّ المكان، طلبة ينتظرون مرافعة عن الحقائب المهاجرة، عن وفرة الحزن وشحيح الفرح، عن التركة التي تقاسمتها معه في الحياة والممات.
أتلعثم مع بداية كل حرف قبل أن تسيل الفكرة بتؤدة، القواعد والأساسيات للحصول على عمل متقن، إيصال الفكرة بطريقة جميلة وواضحة، نصب يزيح القليل من الارتجال عن المشهد العام. انها الأسئلة التي يُجاب عليها في امتحان غير رسمي يشارك به ثمانية عشر طالباً وطالبة يدرسون في كلية الهندسة المعمارية في جامعة «بيرزيت»، تحت رعاية اثنين من الأساتذة الشباب.
مواصفات مختلطة من خصوصية فلسطينية وخصوصية علاقة مبتسرة. الحب والحزن يجتمعان في زواج قصير. حب مثالي، إيثار وتضحية. وضوح الشخصية ووضوح التصميم، انسياب الماء والقبض على الجمر.
في مساحة بين الواقع والخيال أتحرك، السجل الذهبي للشهيد، صرح يجسِّر مع الناس، صرح يلقن الدروس عن حب الوطن في السراء والضراء، يعلم الأجيال قيمة الأرض..رسالة الشهيد الكبيرة. القيمة التي يصعب الاعتداء عليها من قبل أي قوة عاتية. انه الوعي الذي إذا ما امتلكه المجتمع؛ حتماً يحظى بالغنى والثراء. مآثر الشهداء لبناء المستقبل، حقائق تضمن استمرار النضال، الرياح مهما كانت عاتية لا تتمكن من زعزعتها.
تتحرك معي العيون، تتوسل إرضائي. كأننا في صلاة خاصة بعيدة، الجميع يرغب في الحصول على الفكرة وتوظيفها من أجل تصميم خاص ومختلف، منحها المصداقية دون صراخ أو بهرجة.
أعطي الحضور بعضا من إحساسي بالفقد، تتحول الكلمات إلى تشكيل من سلاسل حجرية، زيتونة روميّة تمنح المشهد غناءً من نوع خاص، ليس خطاباً، ليس قصيدة رثاء، بل قطعة شديدة الخصوصية، تحمل اسماً من ذَهَب.
الطقس يتضامن معنا، مطر أيلول يأتي على حين غرة، في أوانه وغزارته. يغطي قرع المطر على الشبابيك صوتي، يزداد المشهد الملتئم في أحد الغرف الصفيّة في كلية الهندسة المعمارية المزيد من المصداقية والتعبير، حيث يجتمع ثمانية عشر طالباً وطالبة، على وشك ان يتحولوا إلى مهندسين ومهندسات، يستمعون إلى كلمات يحررها لساني، في أجواء صلاة خاصة.
يفسر الأساتذة كلماتي بلغة هندسية، ينبهون الطلبة إلى تجاور المشاعر مع قياسات ومساحات معيارية، تناسب كميات الأمل مع الألم، تفادي ارتفاع منسوب التشاؤم على منسوب التفاؤل، تصوير التعايش بينهم بذكاء وحكمة..
بعد سنوات من المحاضرة الفريدة، انتبهت إلى أن صورة الميدان تطابقت مع القبر الملون الذي تحدث عنه أحد الطلبة، بعد فتح باب النقاش لدخولهم عمق التصميم. أنتبه إلى موت الاستاذ «يوسف الخطيب» في حادث طرق، واستمرار الأستاذ «فايق مرعي» في تصميم مفهوم خاص ومقاربة المرافق العامة مع خصوصية الشعب..وعلى وجه الخصوص لا أنسى الجملة التي انتهى إليها أحد الطلبة، ملخصاً موقفه المُحَيِّر: «أعتقد أن على نساء فلسطين أن تحسدك»!