«30 رقماً سرياً»

عبد الغني سلامة.jpg
حجم الخط

عبد الغني سلامةمثل آلاف آخرين؛ أتابع بإعجاب صفحة الشاب الريادي والناشط المجتمعي «سائد كرزون»، أترقب ما يكتبه، لأستمد منه طاقة إيجابية، أحتاجها في معظم الأيام.. حيث اعتاد سائد أن يكتب بلغة بسيطة، أقرب للعامية، دون تكلف، وبكلمات مباشرة، ولكنها غير جافة.. مركزاً خطابه نحو الشباب، ليربي فيهم الأمل، يزرع في عقولهم القيم الإيجابية.. 
حين صدر كتابه الأول «30 رقماً سرياً»، توقعت أنه سيكون عبارة عن ثلاثين وصية، تركز على كيفية استخراج الطاقة الكامنة في دواخل كل إنسان، على غرار قواعد العشق الأربعين، وهو موضوع مطروق سابقاً، في عشرات الكتب والمحاضرات والأفلام التسجيلية.. بل إنه عِلمٌ كامل، له أسسه ومناهجه ومدارسه ورواده.. لكن كتاب «سائد» أتى خلافاً لتوقعاتي، بيد أنه لبّى وبشكل وافٍ كل ما كنت آمل بأن أجده فيه.. لاسيما وأننا بأمس الحاجة لمن يزرع فينا الأمل، ويدعونا للتفاؤل..
«30 رقماً سرياً»، أو «رحلة الصخرة الكونية وأسرار القوة الذهنية»، والذي يهديه الكاتب لصديقة كونية افتراضية.. عبارة عن نص أدبي يمتزج فيه الخيال بالواقع، صاغه كرزون بلغة أدبية سلسة، وبأسلوب مشوق، ونجح فيه في كتابة سيرته الذاتية، بأسلوب ونَفَس روائي، دون أن يقدمه على شكل رواية.. وبشكل يختلف عن السرد التاريخي، أو كتابة المذكرات.. فأتت قصة غير مكتملة، بنهايات مفتوحة، تشبه نهايات قصصنا وحيواتنا المفتوحة على كل الاحتمالات. 
كما نجح كرزون بتقديم ما رغب في تقديمه من نصائح إرشادية وقيم إيجابية، لكن ليس على شكل مواعظ ونصائح مثقلة بالشعارات.. بل بطريقة أدبية ذكية وخفيفة، تحترم وعي القارئ، ولا تتعالى عليه.. 
وببراعة أيضاً، أدان الكثير من المظاهر الاجتماعية السلبية والعادات الموروثة، مع ذكر أمثلة حقيقية من الواقع، دون أن يدين الأشخاص الذين مروا بحياته وساهموا بصياغة تجربته الشخصية. 
اختار اسم «فرحان» بطلاً لقصته، وبدأ معه رحلة الحياة، عبر السرد القصصي الشيّق، منذ ولادته، مروراً بطفولته المبكرة، وبأسرته ومدرسته، حتى عامه الثلاثين.. لنكتشف حينها أن الثلاثين رقماً سرياً هي سنوات عمره التي صاغت تجربته وأنضجته هوناً على هون. 
يبرهن «سائد» من خلال سرديته أن كل سنة (بل كل يوم) في حياة الإنسان مهمة جداً، ليس فقط من منطلق قدسية الحياة؛ بل وأيضاً لأنها تسهم في تشكيل شخصية الفرد، وتحديد اتجاهاته الفكرية، وميوله، ورسم مسار حياته.. خاصة السنوات الأولى (الطفولة المبكرة).. بل إنه يبدأها بفترة المكوث في رحم الأم.. ويبرهن أن المحيط الاجتماعي (الأسرة، والمدرسة والحي) يؤثر بشكل حاسم في تشكيل الشخصية ونموها.
يسمي كل مرحلة عمرية، أو كل بيئة اجتماعية «مجرة»، ويملؤها بالقصص والرموز والتجارب والحِكم.. ويوضح كيف أثرت فيه، وكيف استفاد منها، وكيف حوَّلَ كل معيق إلى محفز، وجعل من كل عائق فرصة.. و»فرحان» بطل القصة، ليس بطلا كلاسيكيا، لا يُشق له غبار، ولا يعرف الهزيمة.. بل هو إنسان هش، تختلجه كل المشاعر الإنسانية العادية: الضعف والقوة، الخوف والإقدام، التردد والتصميم، الخجل والمواجهة.. وكل ما في الأمر أنه (أي فرحان) عرف كيف يغوص إلى أعماق نفسه، ويستخرج منها القوة والشجاعة اللازمة. 
يستعرض مراحل نموه، وما علق في ذهنه وقلبه في كل مرحلة، من رموز وحكايات، وعلاقاته بمحيطه، وبأقرانه الأطفال، وأشقائه من أبيه، وزوجة عمه، وزملائه بالمدرسة، وحتى مدرسيه.. الذين اضطهدوه في البيت والشارع والصف، ووصفوه بِـ»الهبيلة» و»الغبي».. ووالده (المشغول بعمله وفنه) والذي عجز عن العدل بين أبنائه.. وأمه التي كانت حارسه الشخصي، والتي أهدته «بسكليت».. وهذا «البسكليت» له معه حكاية ستترك أثراً بعيد المدى في شخصيته. 
ويواصل سائد أو فرحان سرديته؛ كيف تعلم الموسيقى، التي ساهمت في صقل شخصيته بشكل إيجابي، ثم دراسته الجامعية، وعمله أثناء التعلّم ليستطيع الإنفاق على نفسه، واختياره تخصص «الإعلام»، وتجربته في العمل التطوعي، وإسعاد الآخرين، والسفر لعواصم أوروبية، والتقدم لمسابقات عالمية، ونيله جوائز مهمة ورفيعة، وصولاً لتجربته الشيّقة في الحب والزواج، حتى يصل بنا إلى نهاية الكتاب، فيكون بذلك قد قصَّ علينا قصة إنسان مكافح ومثابر، نجح في التغلب على كل المعيقات التي واجهته، وأثبت نفسه بجدارة، وأوجد لها مكانة مرموقة في عالم التنافس الشرس. 
ولا يقدم سائد قصته للتباهي؛ بل لتكون مفتاحاً للشباب أمثاله، ليحرضهم على البحث عن أسباب النجاح، ويرشدهم إلى كيفية تجاوز الإخفاقات، وكيف يحوّلون الطاقة السلبية إلى إيجابية، وكيف يعززون ثقتهم بأنفسهم، وكيف يخططون لمستقبلهم، ويضعون لأنفسهم أهدافاً كبرى.. مؤكداً أن نجاحه لم يكن أمراً سهلاً، وأن خلاصه لم يكن كاملاً؛ بل كان نسبياً، لأن تأثيرات النوازع السلبية تبقى، من منطلق الصراع الوجودي أولاً، ولأنها من سنن الحياة ثانياً، وتظل طالما بقي الإنسان حياً.
وقد عبّر «فرحان» عن خلاصه النسبي، حين بلغ الـ26 من عمره، وامتلك الطاقة والإرادة لإثبات حضوره، حيث عاد لمدارج الصبا حين كان طفلاً غضّاً، لا يستطيع السيطرة على «البسكليت» التي هوت به من أعلى التل، ليعيد المحاولة من جديد: «انطلق فرحان، وكان يعرف أسرار هذا الشارع ويحفظها عن ظهر قلب، ويدرك نقاط قوّته ونقاط ضعفه، فقد نفض الغبار عن إمكانات عقله هذه المرّة. انطلق بقوّة وشجاعة، مواجهاً مخاوف الطّفولة وهو في نشوة الحياة، محققاً حلمه، اقترب أكثر من عنق الشّارع، ذاكرته تزعجه قليلاً ومن ثم أكثر، أكمل، اقترب، تمسّك بالفرامل، تحكّم بالمِقوَد، اقترب واقترب، وصل.. وصل فرحان منتصراً، توقّف عند السّور وضحك، سائلاً نفسه: هل كان هذا سرّ «البسكليت» حينها؟ وهل حالة الخوف تلك كانت تسيطر على عقلي كلّ هذه السّنوات؟». (ص111).
ينهي الكتاب بجملة رائعة: «خُلق الصباح ليكون بداية أخرى لكل شيء دائماً».
ينتمي العمل إلى أدب الشباب، وهو جنس أدبي شائع عالمياً، وهو اليوم صاعد في فلسطين والبلاد العربية، يسعى الشباب من خلاله إلى نشر الثقافة الإيجابية المحفّزة للتغلب على عوامل الإحباط. 
إنه نص أدبي بامتياز، ينحاز للعامل الذاتي الداخلي في حياة الإنسان.