: عندما حدثت الانفراجة المفاجئة بين حركة حماس وتيار فتح الإصلاحي في القاهرة، وتمخضت عن أكثر من لقاء مع النائب محمد دحلان؛ القيادي في هذا التيار، كانت ردة الفعل تتراوح بين الصدمة والذهول لدى الكثير من الإسلاميين، والترحيب والبشرى عن البعض الآخر، كما أن هناك من بين الفصائل من التزم الصمت، وآثر التريث والانتظار حتى ينجلي الغموض وتتبين ملامح هذه التفاهمات.. ولكن - وهذه حقيقة - كانت الأسئلة تجري على ألسنة الجميع بلا توقف.
واليوم، برغم مضي أكثر من شهرين على تلك التفاهمات، إلا أن غالبية شرائح المجتمع الفلسطيني بكل عناوينها الفصائلية والحزبية، ومنظمات المجتمع المدني، والنخب من الأكاديميين والمفكرين والإعلاميين ما تزال تلوك بألسنتها تلك التفاهمات بلغات متفاوتة، قاسمها المشترك هو أنهم "مبشرين ومنذرين"؛ فلا إجابات قاطعة لديهم ولا تطمينات حاسمة، والكل يعتمد منطق التخمين والتحليل، الذي لا يخلو من الحدس والتوجس، وأن الدليل على صدقية هذه التفاهمات مرهون بالدرجة الأولي على إيجاد حلول لمشكلة الكهرباء، ونسب البطالة العالية بين الشباب، وتغيير لسلوكيات المعاملة اللاإنسانية التي يتعرض لها الفلسطينيون في المطارات المصرية، وحجم التسهيلات وحركة السفر على معبر رفح؛ شريان الحياة الأساس لقطاع غزة.
وحيث إن علامات الاستفهام تملأ فضاء قطاع غزة، وهي الشغل الشاغل لأحاديث النخب ودردشات المجالس، فقد تعهدنا في مؤسسة بيت الحكمة؛ وهي مركز أبحاث للدراسات والاستشارات، أن نحمل هذه الهموم والاستفسارات لقيادات من هذا التيار الإصلاحي لحركة فتح ولشخصيات من حركة حماس، ولبعض قيادات الفصائل ومنظمات المجتمع المدني، إضافة للنخب الفكرية والسياسية، لنسمع منهم جميعاً وجهات نظرهم المختلفة حول هذه الخطوة، والانطباعات التي تشكلت لديهم حول هذه التفاهمات، كما أننا أجرينا في الوقت نفسه أكثر من جلسة حوار مع الشباب، للإنصات إلى ما يدور في أذهانهم وبين تجمعاتهم، حول كل ما يجري من تحركات سياسية تمس واقع حياتهم ومستقبل أجيالهم.. آملين من وراء هذا الجهد البحثي والاستقصائي التوصل إلى نتائج، ربما إن أحسنَّا استخلاصها مساعدتنا على توفير بيئة معرفية لتقييم تلك التفاهمات، من حيث حجم التطمينات أو غيابها.
من الجدير ذكره، أن هذه التحركات السياسية التي يشهدها أهالي قطاع غزة، من حيث التفاهمات والاتفاقات والنشاطات التي ترعها اللجنة الوطنية للتكافل، لن يتمخض عنها حالياً إلا حالة من الانفراج الجزئي، وأنها لن تؤدي إلى تعقيد الحياة السياسية والمجتمعية أكثر مما هي عليه، حيث استشرت الأزمات، واشتدت حلكة المجهول، وأن وضعية المراوحة في المكان القائمة حالياً تميل – للأسف - لحالة من التأبيد والسرمدية إذا لم يحدث التدارك، وهذه أوضاع كارثية إن لم نعالجها بهذه التفاهمات فإنها تبعث على كثير من الخوف والقلق، بصورة ربما لم يسبق لها مثيل في حياتنا السياسية والمعيشية.
اسئلة وتساؤلات وعلامات استفهام محيرة؟!
في محاولة لرصد ما يدور في عقل الجميع حول هذه التفاهمات بين حركة حماس وتيار فتح الإصلاحي، تدافعت على مائدة الحوار الكثير من الأسئلة والتعليقات، وكانت الإجابات والتعقيبات وغيرها من مفردات الحوار هي خلاصة ما أجريناه في تلك اللقاءات الثلاثة التي أجريناها على مدار يومين - في فندق المتحف بغزة - في أجواء بعيدة عن وسائل الإعلام، ودون الإشارة لهوية الشخصيات المشاركة لنمنح الجميع التعبير بحرية عن قناعاتهم بأريحية، كون الهدف هو أن نصل بآرائنا وأراء الآخرين إلى النتيجة التي تمكننا من تقديم وجهات نظر صادقة وأمينة حول كل ما جرى وما زال يجري، كي يهدأ الشارع ويستقر الوطن، وينشرح صدر الجميع بأن هناك ما يلوح في الأفق بأنه طوق النجاة وسبيل الخلاص.
لقد طرحنا في تلك اللقاءات الكثير الكثير من الأسئلة، وحاولنا أن نكون لسان حال الجميع؛ حضر أو لم يحضر؛ لأن الهدف هو قراءة عقل عليِّة القوم، الذين يمتلكون معطيات وأسرار حول ما يجري، ولهم دراية - ولو نسبية - بالأجندات السياسية وما يدور خلف الكواليس. ولذلك، جاءت الأسئلة على الشكل التالي:
هل كان اللقاء بالنائب دحلان وتياره الإصلاحي في حركة فتح هو خيار الضرورة أم اقتضت ذلك المصلحة الوطنية؟ وهل هذا الانفتاح على دحلان سيؤثر على العلاقة المتوترة بين الرئيس أبو مازن وحركة حماس؟ وهل تحسين العلاقة مع دحلان يعني انفراجة أوسع في العلاقات مع مصر؟ وماذا لو أخفقت تلك الخطوة باتجاه دحلان، ما هي بدائل وخيارات حماس القادمة؟ وماذا لو كُتب لهذه التفاهمات أن تنجح، فما هو الشكل الذي ستتطور له العلاقة مع هذا التيار الإصلاحي في سياق الشراكة السياسية، وترتيب أوضاع القطاع، وهل معنى ذلك تكريس القطعية مع الرئيس والحكومة في الضفة الغربية؟ وهل إذا حدث مثل هذا سيكون مؤشر لانفصال قطاع غزة واستقلالية القرار فيه؟ وباي باي للسلطة والرئيس عباس؟!
أسئلة كثيرة صاحبت جلسات الحوار، وتمخضت الإجابات عن قراءة لا تبتعد عن أهمية تلك الخطوة من التفاهمات مع مصر والنائب دحلان، مع ضرورة توخي الحذر بألا ننجرف بعيداً ونخسر الرئيس أبو مازن، وتجد غزة نفسها في أحضان لا توفر لها ضمانات الأمن والأمان!! وعليه؛ فالمطلوب هو استمرار التواصل والسعي لجسر الهوة مع السلطة في رام الله، لتكون تلك الخطوة التي أنجزناها مع التيار الإصلاحي هي المدخل لاستكمال جهود المصالحة مع الرئيس أبو مازن، وبالتالي نكون قد أصبنا عصفورين بحجر واحد؛ كسبنا دحلان وتياره وأوجدنا أرضية تعايش مريحة في قطاع غزة بين فتح وحماس، ومهدنا الطريق أيضاً لمصالحة فتحاوية – فتحاوية، وربما ذهبنا جميعاً لانتخابات تجمعنا جميعاً على قاعدة الشراكة السياسية والتوافق الوطني.
هل نجحنا في وضع النقاط على الحروف؟!
في الجلسة الأولى، والتي اقتصرت على قيادات من حركتي حماس وتيار فتح الإصلاحي، كانت الأجواء تعكس حالة من الصراحة والوضوح بأن هذا الخيار من التقارب الذي حدث بين حماس وتيار فتح الإصلاحي، وبغض النظر عن كل ما يقال عنه، من حيث دوافعه وتوقيته بعد مؤتمر الرياض، والاتهامات التي تمَّ توجيهها لحركة حماس، وتصنيفها كحركة إرهابية بمباركة عربية!! كانت السعودية – للأسف- تقف على رأس الداعمين لها!! ثم تلك الحملة العدائية الشرسة ضد قطر لمحاصرتها وعزلها والضغط عليها، وتداعيات ذلك على حركة حماس، التي تجد في دولة قطر وأميرها الشيخ تميم نصيراً لها وللقضية الفلسطينية.. لا شك أن تلك الأجواء لم تكن تبشر بخير، حيث وجدت حركة حماس نفسها محشورة في الزاوية وبخيارات شبه معدومة، بعدما فقدت الثقة بإمكانية تحقيق المصالحة مع الرئيس أبو مازن.
فجأة، جاءت دعوة القاهرة لأركان القيادة العسكرية والأمنية لحركة حماس، وكذلك للرئيس الجديد للمكتب السياسي الأخ يحيى السنوار، لزيارة مصر واللقاء بالمستويات الأمنية العليا فيها ممثلة بجهاز المخابرات العامة والوزير اللواء خالد فوزي، والتي تمخض عنها تفاهمات إيجابية لبناء الثقة وترتيبات لحماية أمن الحدود. كما جرت لقاءات أخرى مع النائب محمد دحلان وتيار فتح الإصلاحي تبعث على التفاؤل والأمل.
نعم، كانت النظرة إلى تلك التفاهمات بأنها خيار الضرورة، وأنها كانت أشبه بممر إجباري لا بديل عنه، بعد أن أغلق الرئيس (أبو مازن) الطريق أمام قيام شراكة سياسية حقيقية مع حركة حماس أو خروج آمن وبكرامة تحفظ تاريخها وإنجازاتها.
إن القناعة التي وصلت لها قيادة الحركة من خلال التقارير وما يجري من أحاديث في مجالس أهل السياسة وبطانة الرئيس، أن النيَّة غير متوفرة في رام الله لدى القيادة السياسية في التوصل إلى حل ومصالحة حقيقية مع الحركة، فالرئيس - كما يقولون - فقط يناور، وهو لا يكن أي احترام تجاه غزة وأهلها، وهو يراهن على عامل الوقت لانهيار الجهات الحاكمة فيها!!
في الحقيقة، لم تتوقف جولات الحوار وجهود الوساطة خلال السنوات العشر الماضية، والتي شاركت فيها جهات فلسطينية وإقليمية ودولية، بهدف تحقيق المصالحة وانهاء الانقسام، إلا أنها تعثرت، كما أنها عمقت الشكوك وفقدان الثقة في العلاقة ما بين حركة حماس والرئيس أبو مازن.
وبالرغم من كثرة الحديث الإيجابي بعد الهبة الفلسطينية الأخيرة للدفاع عن المسجد الأقصى، حول مبادرات جديدة ومرونة سياسية تتحدث بها الأطراف جميعاً، ولقاءات توحي بأن هناك تحركات واتصالات ورغبة لكسر جليد التوتر والقطيعة مع غزة، وأن هناك تغيير ورغبة في الإصلاح لدى القيادة في رام الله، وأن مساحة الخلاف تقلصت بشكل كبير، وأن المطلوب فقط هو الإعلان عن حل اللجنة الإدارية، مقابل الغاء كل ما سبق من قرارات عقابية طالت موظفي قطاع غزة.
يبدو الأمر سهلاً من ناحية الخطاب السياسي، ولكن غياب التهيئة وإعداد الأرضية لهذه الخطوة هو ما يبعث على تعظيم الشك وعدم الاطمئنان، حيث إن هناك من يعتقد أن مثل هذه المرونة التي ظهرت - مؤخراً - لم تكن حاضرة في السابق، ولكنها استجدت بعد ما أخذت التفاهمات مع دحلان طريقها إلى أرض الواقع، وأن هناك تحركات لتجسيد مشاريع وميزانيات لإدارة شئون قطاع غزة، وتأمين إنعاش اقتصادها المتهالك.
إن حركة حماس تخشى في سياق إي خطوة غير محسوبة - الآن - مع الرئيس أبو مازن أن تخسر ما تراه إنجازاً مهماً لها مع مصر من ناحية، ومع النائب دحلان وتياره الشبابي الواسع، والذي يمثل عملياً قرابة 70% من حركة فتح بتاريخها وأمجادها في قطاع غزة من ناحية ثانية.
ولذلك، عندما يتم الحديث عن عودة حكومة الوفاق للقيام بدورها، والذهاب إلى انتخابات تشريعية ورئاسية، لا يأخذ أحد في قطاع غزة هذا الكلام على محمل الجد؛ بل يتم النظر إليه على اعتبار أنه مجرد تكتيكات سياسية ووهم يتم تسويقه، والمطلوب من حركة حماس وقياداتها - الذي غدت أكثر وعياً بألاعيب السياسة - تصديق ذلك!!
إن قناعات حركة حماس اليوم هي الحفاظ على كسبها السياسي مع مصر ودحلان، وعدم التفريط فيه تحت أي ظرف، وذلك بأمل توظيف هذا الكسب في سعيها لتحقيق المصالحة مع الرئيس أبو مازن، والتفاهم حول ما لديه من خيارات وأفكار حول الشراكة السياسية، والعمل على إعادة انتخاب وتجديد للمجلس الوطني الفلسطيني.
إن الجلسة الثانية والثالثة سجلت تحفظات لفصائل ومنظمات المجتمع المدني وأيضاً لبعض النخب الفكرية، وهي تحفظات مشروعة في ظل حالة الغموض التي رافقت تلك التفاهمات.
وفي اللقاءات الشبابية التي أدرناها متزامنة مع لقاءات النخب لم تختلف المواقف ووجهات النظر، فالشباب يريدون مصالحة تحمي مستقبلهم وتجمع الشمل، وليس لهم تحفظات أن يلتقي الجميع على رؤية ومشروع وطني واحد.
إننا نجد ونجهد لأن تتحول هذه التفاهمان من خيار الضرورة إلى رؤية في الشراكة السياسية، التي تجمعنا كحركتي فتح وحماس لأن نعمل معاً، متجاوزين لخلافات الماضي، ومتطلعين - بأمل كبير - لمستقبل يشتد فيه ساعدنا أجمعين، بهدف تحقيق طموحات شعبنا في التحرير والعودة.
ختاماً.. نحن نستشرف ملامح انفراج قادم يجتمع عليه الكل الوطني والإسلامي، وما بادرت فيه تركيا أردوغان من خطوات أعادت بعث الأمل فينا من جديد.. وبانتظار ما ستتمخض عنه لقاءات الرئيس (أبو مازن) والرئيس رجب طيب أردوغان في تركيا، تبقى أحلامنا وتطلعاتنا لعيد سعيد، فيه من مستجدات أمرنا الكثير من البشرى والتجديد.