ما بين جرود منطقة عرسال ـ رأس بعلبك ـ القاع، وهي بعض سلسلة الجبال الشرقية حيث تقع الحدود الدولية بين لبنان وسوريا، وتل عفر العراقية امتداداً إلى الحدود مع سوريا، من شرقها، تكاد تختتم الحرب على التنظيم الارهابي “داعش” بعد ثلاث سنوات وشهرين من اجتياحه العراق وصولاً إلى الموصل التي اتخذها عاصمة لدولة “خلافته”.
جرت مياه كثيرة، خلال هذه الفترة، في نهر الفرات الذي ـ ينطلق ـ كما “داعش” من تركيا ويخترق شمالي سوريا وشرقها ليلاقي نهر دجلة الآتي من جنوب تركيا أيضا عند “شجرة آدم”، قبيل البصرة، في جنوب العراق، ليشكلا معاً شط العرب قبل المصب في الخليج العربي.
وسالت دماء كثيرة عبر هذه السنوات الثلاث، دماء أطفال ونساء ورجال، وهدمت مدن من أمهات التاريخ، كالموصل، ودمرت شواهد على حضارة ارض الرافدين التي كانت قد شهدت طفرة عمران، ولو جزئية في عهد صدام حسين، قبل أن يدخلها جيش الاحتلال الأميركي في ربيع العام 2003 فينهب كنوز الآثار من مقتنيات المتاحف والجامعات وإدارات الثقافة والعلوم في بغداد وسائر المدن.. فضلاً عن إقدامه على حل الجيش الوطني العراقي وتغذية أسباب الفتنة بين السنة والشيعة ليتمكن من بعث “الفتنة الكبرى” بحيث تشغل العراقيين عن نهبه او تدميره إبداعات الحضارة الأولى في التاريخ الإنساني..
على أن هذه الانتصارات الباهرة، قد حققها الجيش العراقي (مدعوماً بالطرفين الخصمين: الولايات المتحدة الأميركية بطيرانها وبعض “خبرائها” العسكريين، وإيران ممثلة بـ” الحشد الشعبي” وهو التنظيم السياسي العسكري المرتبط نظرياً بالمرجعية الدينية الشيعية في النجف، وان ظل تسليحه وتدريبه إيراني المصدر، عملياً..)
في حين أن الانتصارات على “داعش” وما ماثله من تنظيمات إرهابية متحدرة من القاعدة في سوريا وقد أنجزها الجيش السوري بالشراكة الفعالة مع الاتحاد الروسي بقيادة فلاديمير بوتين، و”حزب الله” اللبناني معززاً بالحرس الثوري الإيراني، مع “تدخل” أميركي محدود تبدى جلياً في نصرة أكراد سوريا وتعزيز تنظيمهم ( الاتحاد الديمقراطي السوري)في معركتهم لتحرير مدينة الرقة، بينما كان الجيش السوري يتقدم نحوها عبر الصحراء.
لا بد من الإشارة هنا إلى أن هذه التنظيمات الإرهابية قد طاولت باعتداءاتها المدن اللبنانية، بيروت وضواحيها الجنوبية وبعض فنادقها، وأوقعت عشرات القتلى ومئات الجرحى ودماراً واسعاً في المناطق التي طاولتها هذه الاعتداءات عبر السنوات الثلاث.
كان العدو واحداً، لكن تلاقي الدول الضحايا (العراق وسوريا ولبنان) قد احتاج إلى كثير من الدم قبل أن يتأكد على الأرض، وان ظلت الأغراض السياسية تحاول تعكيره عبر اثارة الحساسيات الكيانية والطائفية، لا سيما في لبنان.. حيث كابرت بعض القوى السياسية ذات المنطلق الطائفي فأنكرت على “حزب الله” دوره الريادي في اقتحام الجبال، ثم أنكرت على سوريا دورها ـ بالشراكة مع “حزب الله” في تحرير الجانب السوري من الحدود، ومن ثم إجبار “داعش” ـ بعد استسلامها ـ على تسليم جثامين العسكريين الثمانية من أفراد الجيش اللبناني الذين أسرتهم ثم أعدمتهم مستمرة في التفاوض على تسليمهم حتى انكشاف الحقيقة مع تحرير القسم السوري من الجرود.
***
للهزيمة أب واحد أما النصر فكثير الآباء..
وهكذا فان للنصر في العراق، بعد الجيش والشعب فيه، الحشد الشعبي بتسليحه الإيراني، والطيران بالطيارين والخبراء الأميركيين، ومقاتلي القبائل، وللنصر في سوريا، بعد الجيش والشعب فيها، الحرس الثوري الإيراني، و”حزب الله” اللبناني الذي تدعمه إيران، ثم الخبراء الروس بطائراتهم ومستشاريهم العسكريين، ومدفعيتهم بعيدة المدى التي تقصف في سوريا انطلاقاً من الأراضي الروسية، ثم حاملة طائراتهم في المتوسط.. وكذلك هناك الأميركيون الذين يدعمون، الكرد في معركة تحرير الرقة قبل أن يصل إليها الجيش السوري عبر الصحراء لتحريرها..
يمكن القول أن الجانب الحربي من معركة تحرير العراق من “داعش” قد اكتمل او انه على وشك أن يكتمل..
ويمكن القول أيضاً أن الجانب العسكري من الحرب في سوريا وعليها يشارف على النهاية، وان كان مشروع الحل السياسي للازمة ما زال قيد الإعداد وقد يحتاج إلى مزيد من الوقت قبل التوصل إلى صياغته النهائية..
لقد انتهت “داعش” كمشروع اجتياح للمنطقة العربية بالشعار الإسلامي المزور… لكن مئات وربما الآلاف من مقاتليها الذين تمكنوا من الهرب والعودة إلى ديارهم، او في اتجاه أوروبا، ولا سيما فرنسا التي يعرفونها جيداً، إذا افترضنا أن مئات منهم من أصول تونسية ومغربية أساساً، وهذا قد ينقل المعركة إلى ارض أخرى من دون أن تنتهي الحرب..
وانتهت مع “داعش ” المنظمات الإرهابية الأساسية، سواء التي حاولت أن ترث “القاعدة” كتنظيم “النصرة” او ” حرار الشام” او غيرها..
لكن حقائق الواقع العربي مرة، ولا تساعد على توقع استقرار قريب في هذه البلاد التي اجتاحتها عصابات الإرهاب وتحكمت في مصير دولها وأهلها لسنوات طويلة وقاسية..
أخطر هذه الحقائق أن الدول العربية، مشرقاً ومغرباً، إما متخاصمة وإما تربط بينها علاقات باردة… وثمة بينها من دعم عصابات الإرهاب مباشرة او بشكل غير مباشر او اتخذ منها، موضوعياً، حليفاً ضد النظام الآخر الذي اعتبره خصماً له..
ولولا هذا الواقع الموضوعي لما تمكن “داعش” من اجتياح العراق والتمركز في الموصل التي اتخذها “عاصمة للخلافة” مع تعيين “الأمراء” على النواحي الأخرى، وإحراق المدن والقرى، وإحراق البشر وتصويرهم وهم يحترقون في أقفاص ونشر صورهم على العالم، لترهيب الناس في كل مكان..
كذلك فلولا المساعدات المالية والعينية (السلاح والذخيرة) التي تلقتها أشتات المعارضة السورية من دول عربية (خليجية أساساً) لما تمكنت هذه العصابات من اجتياح نصف مساحة سوريا تقريباً، واحتلال حلب وأرياف حماه وحمص وتهديد دمشق (وعبرها لبنان) لولا النجدة الروسية الفعالة والدعم الإيراني المفتوح ومشاركة “حزب الله” من لبنان بدماء مجاهديه..
إننا عشية النهايات لفصول مأساوية دموية عاشها شعبان عربيان، وهددت دولتين عربيتين في كيانيهما وفي مستقبلهما..
مع ذلك فقد ظل الانقسام العربي قائماً، بل لعله قد توسع من اليمن على البحر الأحمر إلى سوريا (ولبنان) على البحر المتوسط، مروراً بالعراق.
ولعل مصر وحدها قد حافظت على موقف متوازن وعاقل، وان بقي صامتاً، فأبقت على علاقاتها مع العراق علناً، ومع سوريا مخابراتيا، وظلت تضغط من اجل حلول سياسية وسلمية في البلدين.
أن المنطقة العربية الآن تواجه ـ مجدداً ـ مصيرها: فأما أن تتقارب دولها حماية لشعوبها وكياناتها وثرواتها، وإما أن تعيش حالة اضطراب وقلاقل تهدد كياناتها وشعوبها وثرواتها.. ومصيرها.
وليس الأمل وطيداً باستفاقة الغافلين او المتغافلين والمستفيدين من حالة التفكك والضعف وتعاظم الاحتياج إلى الأجنبي، لا فرق بين ان يكون أميركيا أو إسرائيلياً.