"اللسان الطويل" والمؤامرات الكثيرة

thumbgen (12).jpg
حجم الخط

 

لا تكاد تنتهي أزمة صغيرة في "الضفة الغربية" حتى تبدأ أخرى، وتكبر الأزمات وتصبح قضايا رأي عام، وتتخذ هذه الأزمات شكل اعتقالات لصحافيين وناشطين، وخلافات وقرارات متباينة داخل حركة "فتح"، ومع القوى السياسية الأخرى، يتخللها الحديث عن مؤامرات وأجندات خارجية، و"إطالة اللسان". وصارت هناك أزمتا ثقة، وعدم تجاوب، مع الخطاب الرسمي. والسؤال الذي يطرح نفسه كيف وصلت الأمور هنا؟ والجواب أنّ فكرة حشد الطاقات والوحدة الوطنية تراجعت لصالح الخطاب الأمني، واختفى من كان يمكن مجازاً تسميتهم "إطفائيّي" الحرائق السياسية، "عرّابي" الوحدة الوطنية.
بعيداً عن ملفات قد يكون فتحها مَطلبا لدى شرائح كبيرة، مثل ملفات مسؤولين سابقين، مثل محمد دحلان وخالد سلام. وإضافةً إلى ملف الانقسام الأكبر مع "حماس"، والذي له ملابساته الخاصة، هناك سؤال لماذا تتفجر كل هذه الأزمات الصغيرة المتتالية. بدءا مما حصل مع مسؤولين سابقين، مثل ياسر عبدربه، وسلام فياض، مروراً بالأزمة المتفاعلة حتى الآن تحت السطح إلى حد كبير بشأن إضراب الأسرى الأخير، والانتقادات المتبادلة الضمنية أو الصريحة، بين جزء من القيادة الفلسطينية وعضو اللجنة المركزية لحركة "فتح" مروان البرغوثي، مع الأنباء الآن عن إجراءات قاسية ضد نادي الأسير الذي تقوده "فتح". 
انشغل الرأي العام الفلسطيني، أو جزء منه، الأسبوع الفائت، بأربعة ملفات رئيسية. الأول، إجراءات الاحتلال في الخليل التي تؤسس بلدية للمستوطنين وتضع إجراءات لتطوير الدعم المادي للمستوطنين وتمكينهم، الذي يواصل تقويض وجود وحياة الفلسطينيين، وربما كان الأصل أن يكون هذا الملف الأبرز الذي ينشغل به الرأي العام، لكن ثلاثة ملفات صغيرة، أخرى برزت، هي الإعلان عن فك لغز مقتل المواطنة نيفين العواودة، التي قتلت في شهر تموز (يوليو) الفائت، وجرى الربط حينها شعبيّاً بين ملفات فساد كانت تتحدث عنها في وسائل التواصل الاجتماعي ومقتلها، والملف الثالث اعتقال الصحافي أيمن القواسمي في الخليل. والملف الرابع، اعتقال منسق حركة "شباب ضد الاستيطان" عيسى عمرو، في الخليل أيضاً. 
اللافت في ملف العواودة، عدا أنّه استأثر بالاهتمام على حساب ملفات أخرى، أنّ التوضيحات الأمنية جوبهت بحملة تشكيك شعبية، لمسها الناطقون الرسميون وغير الرسميين، وعلقوا عليها على صفحاتهم على وسائل التواصل الاجتماعي. أمّا القواسمي وعيسى عمرو، فاستحضرت تهم لهم، تشبه ما وجه مؤخرا لمجموعة من الصحافيين اعتقلوا في أكثر من مناسبة، وهي تهم تدور في فلك "الظروف التي تجلب الشبهة، وإثارة النعرات، وإطالة اللسان".
الوضع تحت حكم "حماس" ليس أفضل أبداً، ويحتاج لمعالجة منفصلة، على أنّ الأهم أنّ النظرية التي قامت عليها "فتح" هي تجميع القوى المختلفة، وتهميش التناقضات الثانوية لصالح مواجهة العدو، وعملياً على مدى عقود استطاعت "فتح" ممارسة نوع من الديمقراطية التي تتقبل أشد أنواع النقد، وكان ياسر عرفات، رغم فرديته الكبيرة في بعض الملفات، قادرا على الاحتواء والتسامح مع الخصوم، وكانت قيادات "فتح" المختلفة، قادرة في أقسى حالات الانشقاق، والانقسام، أن تبحث عن بوارق أمل للوحدة، وبلغت البراغماتية الوحدوية أن توظف القيادة العلاقات الخاصة، الأقرب للتبعية، من قبل أشخاص مع أنظمة عربية، لتحويلهم لجسر مع هذه الأنظمة. وما كانت تبرز مجموعة نضالية أو ظاهرة شعبية قوية، إلا وحاول عمالقة مثل خليل الوزير على استقطابها والتعاون معها، أو حاول ياسر عرفات احتواءها، ومن أمثلة ذلك تنظيمات حركات الجهاد الإسلامي المختلفة، حد رعاية تأسيس حركة سرايا الجهاد. 
لماذا لا يمكن التعاون والائتلاف والاختلاف ودّياً وبالمنطق والحجة، والتنافس نضالياً وميدانياً، مع شبان وناشطين ومجموعات، لا يشكلون بالضرورة حالة جماهيرية منظمة أو واسعة، ويشكلون ثقلاً في مناطق محددة وضمن جماعات معينة، بدءا من باسل الأعرج وصولا للمهندس عيسى عمرو، مروراً بالكثيرين.         
أين آلة وثقافة العلاقات الوحدوية الوطنية التي كانت تميز "فتح" وتجعلها تضم الجميع، وتبحث عن الطاقات لتضخيمها وتوجيهها، حتى لمن لم ينتمي إليها؟ لا التشكيك بهم واتهامهم بتهم يصعب تقلبها في مرحلة التحرير على الأقل، مثل إطالة اللسان. 
تحتاج الآلة التنظيمية للعمل الوحدوي التعبوي الوطني للإحياء، والتراجع عن الخيار الأمني إزاء من ينتقد ويرفع الصوت، بحق أو حتى بدون حق أحياناً.

عن الغد الأردنية