عندما تقدمنا خمسين عاماً إلى الوراء

thumbgen (4).jpg
حجم الخط

 

أنا من عشاق الأفلام العربية القديمة، الأبيض والأسود، أجد فيها المستوى الفنى الذى لا يقل عن مثيله من أفلام أوروبا وأمريكا فى ذات الفترة، وأجد أيضا فيها ملامح مصر التى كنا نتمنى أن تستمر، وأرى أيضا فيها كثيرا مما ننادى ونأمل فى أن نراه فى مجتمعنا اليوم، ولكن أصواتنا تضيع هباء، ثم نكتشف عندما نشاهد هذه الأفلام أن كثيرا مما نفتقد فى بلادنا هذه الأيام كان موجودا فى بلدنا ذاته، ولكن فى زمن مختلف، فأضيع بين تحديد هوية ما نريد، هل هو رؤية للمستقبل، أم حنين غير مدرك للماضى؟! وكأن النكتة الشهيرة عن أن الغرب بعد دراسة عميقة لواقعهم وواقعنا انتهت الدراسة إلى أننا متقدمون عنهم خمسين عاما على الأقل، ذلك أنهم فى وضع وسلوك يشبهنا منذ خمسين عاما!

المهم، لست أتحدث هنا اليوم عن الحنين للماضى بإطلاقه، ولكن استوقفنى ظهر اليوم وأنا أتابع شاشة التليفزيون المشهد الأول من فيلم «أنا وهو وهى» لفؤاد المهندس، ولست هنا من أجل سرد الفيلم ولا الحديث عن قيمته الفنية، ولا التذكير بأن القانون «مافيهوش زينب»، ولكن فقط أتحدث عن المشهد الأول فيه، ولم أكن أعلم أنه الفيلم، ولكن يبدأ المشهد بلافتة نحاسية صغيرة مكتوب عليها «نقابة المحامين»، ثم تتحرك الكاميرا إلى الداخل أمام رجل يبدو أنه النقيب يترأس اجتماعا لما يبدو أنه مجلس نقابة المحامين، نجح المخرج فى اختيارهم بما يبدو عليهم من جدية واحترام، واستطاع أن يضع على ملامحهم الجدية، وأن تكون ملابسهم رسمية راقية داكنة، ويبدأ النقيب بالحديث موجها كلامه إلى محام واقف أمام المجلس، فيما يبدو أنه مجلس تأديب، ويتحدث النقيب موجها حديثه للمحامى بأنه قد تجاوز فى أدائه بما يسىء إلى مهنة المحاماة، وأنه- أى المجلس- قرر أن يوقفه عن ممارسة المحاماة لمدة شهر، مع إنذاره بالشطب فى حال تكرار المخالفة.

وهنا ينتهى حديثى عن المشهد والفيلم، وأبدأ حديثى عن المشهد الذى نعيشه، وأسأل: أين أصبحت نقاباتنا من التداخل والاهتمام بشؤون المهنة، بل أين باتت نقاباتنا وجودا أو عدما؟ ومن المسؤول عن هذا الوضع الذى وصل إليه العمل النقابى فى مصر، سواء للنقابات الفاعلة أو النقابات المجمدة؟ وسؤالى الآخر: متى حدث تدخل نقابى لعقاب عضو من أعضائها لتجاوزات مهنية؟ لقد أصبح العمل النقابى خلطا ما بين السياسة والمصلحة الشخصية لمحترفى العمل النقابى، وبات الحكم فى العلاقة هو النفاق من أجل الأصوات!.

للأسف حالة الازدواجية هذه ما بين نفاق الأصوات ونفاق السلطة من قطاعات نقابية مختلفة هى التى وضعت هذه الكيانات فى ذلك الوضع الضعيف. أنا هنا لا أدعو إلى قيام كيانات نقابية متوحشة معرقلة لعملية الإنتاج، أو مناكفة للسلطة السياسية، ولكنى أدعو إلى نوبة صحيان لهذه الكيانات لتعود إلى الحياة للقيام بدورها المفترض فى حماية المهن المختلفة والارتقاء بمستواها والتعاون مع الدولة، مع الحفاظ على الاستقلال بمفهومه الإيجابى، من أجل القيام بدورها المفترض تجاه أعضائها والمجتمع والدولة. مفهوم الشراكة فى المسؤولية بين مؤسسات الدولة المختلفة والنقابات المهنية، باعتبارها إحدى ركائز صحة المجتمع، هو ما ينبغى أن يكون سلوكاً حاكماً فى هذه العلاقة.

إن الوضع الذى نعيشه الْيَوْمَ يمثل حالة محزنة من ذلك الغياب الكبير للنقابات والعمل النقابى، ونعايش حالة من تراجع مهنى فى مجالات عديدة فى ظل حالة من الغياب أو التغييب لأى حضور نقابى يقوم بمهامه فى الارتقاء بالمهن المختلفة والارتفاع بمستوى أعضاء هذه النقابات. هذا الدور النقابى المهم فى رفع المستوى المهنى والتأكيد على قواعد وكفاءة والتزام مهنى هو ما سيكون عاملاً مساعداً فى الارتقاء العام بالمجتمع ككل، وأيضا سيعطى هذه النقابات، عندما تستيقظ، شرعية الدفاع وحماية أعضائها.

مشهد من فيلم مصرى قديم، ولافتة نحاسية تحمل «نقابة المحامين» نكأت جروحا نعيشها، وتساؤلات عن مستقبل نتمنى أن يرتكز على ما كان فى الماضى.

عن المصري اليوم