المجتمع والطبيعة لا تعرف الفراغ. والسكون نسبي فيهما، غير ان الحركة والتغير دائمان، وهما السمة العامة. المقولات النظرية آنفة الذكر تنطبق على حالة التموج والتطور الجارية في الساحة الدولية. حيث يشهد العالم عملية تغير جلية في مواقع ومكانة الأقطاب الرئيسية، الولايات المتحدة التي تتراجع مكانتها منذ الربع الأخير من عام 2008 في أعقاب الأزمة الإقتصادية الكارثية، أخلت مكانها رغما عنها كقطب أول ممسك بمقاليد الأمور في السياسة الدولية كلها قبل ذلك التاريخ، وأفسحت الميدان لتزاحم وتنافس الأقطاب لإحتلال ما ترتأيه من مكانة تتناسب وثقلها في الخارطة السياسية الدولية.
في هذا الخضم وبعد ترتيب شؤون البيت الروسي، والتخلص من حالة التعثر والإرباك التي عانت منها روسيا الإتحادية زمن غوباتشوف يلتسين شفارنازدة، والحد من التدخل الأميركي في الشؤون الداخلية الروسية، الذي تلازم مع صعود القيصر الجديد، بوتين وشريكه مديفيدف، أخذت روسيا تستعيد عافيتها ودورها الدولي، وتجلى ذلك أولا بالحؤول دون إنضمام اوكرانيا ودول البلطيق للإتحاد الأوروبي، وإقتطعت شبه جزيرة القرم من أوكرانيا؛ ثانيا واجهت العقوبات الأميركية والأوروبية بقوة، وردتها على أعقابها. لاسيما وان حجم الإستثمارات الأوروبية خمسة اضعاف الإستثمار الروسي فيها. فضلا عن حاجة أوروبا للغاز الروسي الأرخص والأفضل، ولأدراك أوروبا في ولايتي الرئيسين اوباما وترامب، أن اميركا تريد إستخدامها خندق أمامي للدفاع عن مصالحها ونفوذها، مع تخليها الواضح عن مصالح أوروبا الذي تجلى مع تولي ترامب الرئاسة بداية هذا العام؛ ثالثا ترتيب علاقاتها السياسية والإقتصادية والأمنية مع دول الرابطة الأسيوية، في آسيا الوسطى، والحؤول دون التمدد الأميركي فيها؛ رابعا تعزيز دورها ونفوذها في الشرق الأوسط مع وضع ثقلها السياسي والديبلوماسي والعسكري في سوريا، بعدما تم الإلتفاف على الدور الروسي في ليبيا؛ خامسا التشبيك مع إيران بدءا من الوقوف إلى جانبها في ملفها النووي، ثم التعاون معها في الملف السوري وبالضرورة اللبناني؛ سادسا تعمل على إعادة الإعتبار لدورها بشكل تدريجي في أفغانستان لحماية مصالحها هناك؛ سابعا الدخول مؤخرا على ملف المصالحة الخليجية المصرية مع قطر بعد عدم تمكن الجهود الأميركية والأوروبية من النجاح، وربط ذلك مع ترطيب الأجواء بين دول الخليج والنظام السوري؛ ثامنا إستثمار الخلافات التركية الأميركية والأوروبية لتعزيز وتطوير علاقات الشراكة الثنائية معها بما يخدم مصالح البلدين؛ تاسعا مد الجسور مع دول اوروبا الشرقية، التي إرتبطت بعلاقات تاريخية معها، وتقليص مستوى التعارض والممانعة داخل تلك الدول؛ عاشرا همشت الدور الإسرائيلي في سوريا دون إغفال مصالحها، وأقامت معها غرفة عمليات مشتركة بهذا الشأن، وفي نفس الوقت عززت العلاقة معها؛ حادي عشر تناور في الملف الكوري الشمالي، وتعمل على إستغلاله بما يعزز نفوذها في الشرق الأقصى. وتعتبر روسيا الإتحادية إلى جانب الصين الأكثر إستقطابا للعمالة الكورية الشمالية؛ ثاني عشر تشهد علاقاتها تطورا مهما مع مصر وشمال افريقيا العربي.
كل هذه المعطيات شاهد على تعاظم النفوذ الروسي في زمن بوتين على الصعيد العالمي. غير ان الدور الروسي مازال دون المستوى على صعيد المسار الفلسطيني الإسرائيلي. رغم ان اللحظة السياسية الراهنة تسمح له بالتدخل. لاسيما وانه تربطه علاقات إيجابية مع القيادة الفلسطينية وإسرائيل، ولديها اوراق قوة مهمة في إسرائيل يستطيع بوتين وفريقه الحاكم أن يستخدمها بشكل جيد للعب دور مهم على هذا الصعيد، خاصة وأن أميركا مازالت تراوح مكانها، ولم تحقق خلال ربع القرن الماضي أية خطوة إيجابية على هذا الصعيد. رغم ذلك الباب بات مفتوحا وميسرا أمام القيادة الروسية لتتقدم إلى الأمام في هذا الميدان، لإنها اولا الراعي الثاني في عملية السلام، وثانيا لإن لها مصلحة حيوية وإستراتيجية لتوسيع نفوذها في الشرق الأوسط عموما والوطن العربي خصوصا.
النتيجة المؤكدة ان نفوذ روسيا العالمي يتعاظم في القارات المختلفة، والفضل في ذلك يعود لحكمة ودراية وبراعة الرئيس فلاديمير بوتين وأقرانه في الحكم. والآفاق متاحة لتعميق وتعظيم هذا الدور على المستوى الدولي.