من المؤكد أن إعلان "حماس" حلّ اللجنة الإدارية خطوة مهمة في الطريق إلى إنهاء الانقسام، في حال تم فعلاً حل اللجنة وقامت حكومة الوفاق الوطني بممارسة مهامها بشكل كامل، كما يمكن لأي حكومة أن تفعل في مناطق نفوذها، وتم تمكين أجهزة الدولة من بسط سيادتها على قطاع غزة. وعليه فإن حل اللجنة حمل معه الكثير من التفاؤل الذي يجب استثماره من أجل الدفع بعجلة المصالحة إلى الأمام، وتقديم حلول خلاقة لإنهاء الانقسام وتفكيك بناه وهياكله التي جاءت على مقدرات شعبنا، وخنقت أحلامه، وحولتها إلى مجرد جرة غاز وثماني ساعات كهرباء. بهذا يعاد بعث الأمل من جديد بين الناس بحياة كريمة صالحة لأن نروي عنها لأطفالنا وأحفادنا في المستقبل، وصالحة لأن يحكي عنها التاريخ، ويذكرها بالخير.
شكلت اللجنة الإدارية نقطة جدل كبيرة بين التنظيمين الكبيرين، وساهم وجودها في حالة الاستعصاء التي مر بها الحوار الوطني المتعثر أصلاً، ورفع وتيرة الخطاب الفصائلي، وجعل التوتر سيد الموقف. وظلت اللجنة الإدارية لفترة زمنية العقبة الكبرى، أو على الأقل تم تقديمها بفضل الخطاب الفصائلي كذلك، للدرجة التي بات المواطن ينام ويحلم بأن حل اللجنة سيعني إنهاء الانقسام، فيما هو في الحقيقة، أي حل اللجنة، ليس إلا خطوة أولى تسبق الحديث عن إنهاء الانقسام، ويبدو ضرورياً من أجل العمل على إصلاح ما أفسده فيروسه الخبيث.
لقد اجتهد الخطاب الإعلامي في جعل اللجنة الإدارية كل شيء، في تحميلها سبب الانقسام وتقديمها بوصفها الصورة الخالدة عنه. فيما من المؤكد أن اللجنة الإدارية تشكل الإعلان الشكلي عن عدم تخلي "حماس" عن الحكم، وهي في المحصلة ليست إلا تمظهراً واضحاً للقول: إن حكومة الوفاق لا تحكم. فهي حكومة لا تحكم. بل إن مراجعة اتفاق الشاطئ تقول: إنه لم يكن من المتوقع لها أن تحكم. وكنت ممن قالوا، في الأسبوع الأول، على هذه الصفحة بعد توقيع اتفاق الشاطئ: إن ثمة حكومة سرية في غزة تدير الأمور وليست حكومة الوفاق إلا بـ"الشرشف" الجميل الذي غطينا به طاولة السفرة المليئة بالأطباق الوسخة وبقايا الطعام المتعفنة.
لقد حمل الاتفاق بذور فشله منذ البداية؛ حين قام بترحيل القضايا الأهم، مثل: قطاع الأمن وتصويبه ودمجه، وتمكين الحكومة وقضية الموظفين الحكوميين في غزة والمعابر. وتركت الحكومة عارية لتقول: إنها حكومة السلطة بشكل عام، فيما واصلت "حماس" حكم قطاع غزة، وكان يتم منع مستشاري الرئيس وشخصيات الحكومة وقادة "فتح" (التنظيم الشريك نظرياً في حكومة الوفاق وفي جهود المصالحة) من السفر في مرات كثيرة، وكان خطاب الشتم والردح يعلو ويهبط وفق منظومة المواقف والأهواء الشخصية. وربما أن وجود اللجنة الإدارية وفق ذلك لم يكن إلا ترجمة لحالة العجز التي اتسم بها الحوار الوطني الذي فشل في تفكيك بنى وهياكل الانقسام وجعلها أبدية مثلما حاولت وتحاول إسرائيل في جعل الاستيطان وهيمنتها على المصادر الطبيعية أبدية. قصة شبيهة بأوسلو ولكن فيلم كرتون متواضع.
قد يبدو هذا الكلام من الماضي، لكن فهم الماضي أساس في التأسيس للمستقبل. وربما كنا الآن أمام لحظة من المستقبل، لحظة تحمل الكثير من الأمل، الأمل الذي يجب عنايته بشكل كامل حتى لا يتحول مرة أخرى إلى لحظة من لحظات اليأس المعهودة. ودون فهم هذا الماضي واستخلاص العبر منه فإننا نجازف بأن نعيد أخطاء الأمس، الذي لم يصبح أمساً بعد. ولأن التاريخ لا يعيد نفسه، بل إن إحداثه تتشابه، فإن البلهاء وحدهم يتوقفون على النهر ينتظرون أن يأتي شيء آخر غير الماء.
عموماً ثمة الكثير المطلوب الآن. يقع في قلب كل ذلك تمكين حكومة الوفاق في غزة، في أن تحكم وفي أن تمارس عملها بشكل كامل وأن تتواجد السلطة بشكل كامل في غزة حتى لا يكون حل اللجنة مجرد إعلان ترفيهي لا يحمل أكثر من التفاؤل الشكلي. من المهم أن يتم صوغ إستراتيجيات وطنية قائمة على حضور السلطة في غزة وتفكيك بنى ومؤسسات الانقسام، واستعادة السلطة الكلية الموحدة لعملها في القطاع؛ حتى نستطيع مواصلة البحث عن تحقيق الاستقلال الوطني والتحرر، وإعادة الدماء للمشروع الوطني الذي وقع تحت عجلات الانقلاب وما نتج عنه من انقسام مهول أفقياً وعمودياً في مؤسسات النظام السياسي. وقبل كل ذلك وبعده، تأكيد أن الحديث يدور حول مصالحة حقيقية وليست مصالحة ضغوطات واستجابات (لاحظوا بيان "حماس" كيف بدأ بالاستجابة للجهود المصرية)، بل المؤسسة على قناعات وطنية وإدراكات عميقة للمصلحة الوطنية. ومع ذلك تفعيل منظمة التحرير وإعادة بناء مؤسساتها بعد إدماج الكل الوطني بعيداً عن التقاسم والمحاصصات، فالأساس أن يكون الجميع موجوداً. إشارات بسيطة وخطوات لا تحتاج لمعجم لفك طلاسمها.
لقد ملّ المواطنون سيمفونية الانقسام، ولم يعد بإمكانهم أن يتحملوا المزيد، وباتوا ينظرون إلى المستقبل بيأس مفرط، يريدون أن يتخلصوا منه، للدرجة التي باتوا يتشبثون بالعتمة لو عرفوا أن الأمل يرقد في قلبها. ولما كان الحال كذلك، فإن البحث عن المخرج لا يجب أن يكون مهمة عادية، بل مقدسة من أجل أن تظل حياة الناس ممكنة. المواطنون الذين تحملوا ما تحملوا من حصار وعدوان، وتشردوا من بيوتهم، واكتووا بنيران فراق الأحبة ورحيلهم، المواطنون الذين لم يحتاجوا لمديح الساسة ولا كلمات الفخر، بل ظلوا قابضين على الجمر، متمسكين بالأمل ما استطاعوا لذلك سبيلاً. هؤلاء يستحقون أن يتم مكافأتهم بحياة أفضل، لأنهم يستحقونها.