لماذا قاعدة أميركية الآن؟

images (1).jpg
حجم الخط

 

على الرغم من انتشار القواعد العسكرية الأميركية في العالم ووصولها إلى حوالي 750 قاعدة في 130 دولة، بما في ذلك منطقة الشرق الأوسط المحاطة بهذه القواعد من كل حدب وصوب، إلا أن ما يلفت الانتباه مؤخراً هو الحديث عن تدشين قاعدة أميركية في إسرائيل.
هذه القاعدة الأميركية الأولى في إسرائيل التي جرى الكشف عنها بعيد وصول رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو إلى نيويورك واستعداده للقاء الرئيس دونالد ترامب، كل وجودها مرتبط بتحصين تل أبيب من أي اختراقات صاروخية هجومية.
إنها في حقيقة الأمر وفي الأصل قاعدة دفاع جوي، هدفها وضع أنظمة صواريخ هجومية ودفاعية يمكنها إسقاط كل أنواع الصواريخ الموجهة وغير الموجهة، وتلك الباليستية وحتى بدائية الصنع التي يصل مداها من 15 كيلومترا إلى حوالي 70 كالتي تطلقها حركات المقاومة الفلسطينية من قطاع غزة.
ولعل وجود مثل هذه القاعدة في الجنوب الإسرائيلي وبعيداً عن المناطق الحيوية، يعكس إلى حد كبير تحوطات كما تخوفات القيادة العبرية من التهديدات المتنامية سواء لحزب الله المرابط على الجبهتين اللبنانية والسورية أو الوجود الإيراني على خلفية النزاع في سورية.
إسرائيل ألمحت أكثر من مرة إلى أن طهران تبني قواعد عسكرية سرية في سورية وتنقل عدداً من الصواريخ الدقيقة، في حين زودت تنظيم حزب الله بصواريخ قادرة على ضرب العمق الإسرائيلي، ناهيك عن ما تعتبره تل أبيب تهديدات إيرانية كامنة تتصل بتطوير أسلحتها وفي القلب منها منظومة الصواريخ.
الموضوع لا يتعلق بتحوط إسرائيلي من البعبع الإيراني أو حزب الله والمقاومة الفلسطينية فحسب، بل عدا عن المصلحة الإسرائيلية في أهمية وجود أميركي في منطقة جد حساسة، هناك مصلحة أميركية أيضاً تتصل بمحاولات تكتيف روسيا التي حجزت مقعداً دائماً في سورية.
في منطقة الشرق الأوسط لا يوجد قواعد عسكرية روسية باستثناء سورية ويجري الحديث عن وجود قاعدة عسكرية في مصر، وهناك أيضاً توجد قواعد عسكرية أميركية، غير أن واشنطن أخلت مؤخراً قاعدتها "الزكف" التي تقع في الصحراء السورية بالقرب من الحدود مع العراق، وعادت إلى قاعدة "التنف" الرئيسية.
التكتيك الأميركي بالانسحاب من قاعدة "الزكف" مرتبط بالإعلان عن قاعدة مشتركة في إسرائيل، ذلك أن واشنطن قد تنسحب من سورية بعد أن يحسم النزاع وتنتهي الأزمة هناك، ولذلك فإن تموضعها في العراق وإسرائيل وعدد من الدول العربية الأخرى سيجعل هامش التوسع الروسي في منطقة الشرق الأوسط ضيقا للغاية.
ويبدو أن الولايات المتحدة الأميركية عدّلت من استراتيجيتها في الشرق الأوسط، خصوصاً وأن إدارة الرئيس السابق باراك أوباما تحول اهتمامها عن هذه المنطقة إلى بحر الصين الجنوبي الذي اعتبرته ذا أهمية استراتيجية تتصل بضبط توسع المارد الصيني.
يفسر ذلك إنجاز الاتفاق النووي مع إيران في عهد أوباما والالتفات أكثر إلى النزاعات التي تحصل بين الوقت والآخر في بحر الصين الجنوبي، لكن التغيرات الدراماتيكية التي فرضها النزاع في سورية جعلت  إدارة ترامب تركز على منطقة الشرق الأوسط، دون إغفال مصالحها الاستراتيجية في بحر الصين الجنوبي.
إدارة ترامب في ظل معطيات الأزمة السورية وجدت أن إدارة الظهر عن هذه المنطقة سيعني تمدداً روسيا- إيرانياً بالدرجة الأولى، من شأنه أن ينعكس على باقي التنظيمات الموالية لإيران مثل حزب الله و"حماس"، ناهيك عن تخوفات إسرائيلية من إعادة بناء الجيش السوري بما في ذلك قدراته العسكرية.
ثم إن الغزل الأميركي الذي كان حاضراً في فترة من الوقت مع تركيا أصبح فاتراً اليوم، بسبب الدعم الأميركي لأكراد سورية، وهذه المسألة حساسة جداً عند الأتراك الذين رأوا في الوجود العسكري الروسي بسورية مصلحة لهم من حيث ضمان أمنهم في المستقبل.
أضف إلى ذلك أن صفقة الأسلحة التي جرت مؤخراً بين روسيا وتركيا لشراء أنظمة صواريخ اس 400 من موسكو تشكل كسراً للاحتكار الغربي الذي يزود أنقرة بالأسلحة أغلب الوقت، وهذه الصواريخ الدفاعية المتطورة تعكس رسالة عنوانها حضور تركيا في المشهد الإقليمي وعتب من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة بسبب سياساتهم السلبية ضد أنقرة.
ثم إن موسكو سبق وأن زودت إيران بصواريخ اس 300 وهناك تفاوض يجري حالياً من أجل حصولها على اس 400، في الوقت الذي تنتشر فيه هذه النوعيات من الصواريخ في سورية بهدف حمايتها وحماية القوات الروسية المرابطة هناك من أي تهديدات خارجية.
كل هذه العوامل تفسر إلى حد كبير لماذا ترغب إسرائيل في وجود قاعدة عسكرية أميركية في عمقها الحيوي، ذلك أن مثل هذا الوجود سيعني تفوقاً إسرائيلياً إقليمياً وسيحقق لها نسبة من الطمأنينة في مواجهة أي مخاطر عسكرية.
القاعدة العسكرية هذه مزودة بأنظمة رادار كبيرة ومتطورة للكشف عن أي أجسام قد تخترق الغلاف الجوي الإسرائيلي، ومثل هذه القاعدة هي مهمة بالنسبة للدولة العبرية لتأمين عمقها الاستراتيجي، نظراً لجغرافيتها المحدودة ووقوعها في مرمى دول وتنظيمات لديها القدرة على إلحاق الضرر بها.
ترامب حين انتخب رئيساً للبلاد رفع شعار "أميركا أولاً" وترجم هذا الشعار في تعزيز الحضور الأميركي في المناطق الملتهبة تحديداً، وعكسه أيضاً في زيادة الإنفاق على الميزانية العسكرية لتصل إلى حوالي 700 مليار دولار أميركي.
نتنياهو يفعل ذلك أيضاً، فهو يرفع شعار "إسرائيل أولاً"، ولذلك فإنه يبذل جهداً كبيراً على صعيد السياسة الخارجية لتحسين صورة بلاده، ويعقد الصفقات الاقتصادية والعسكرية لتنشيط صادراته من الأسلحة وتطوير محتواها، وفي السياسة الداخلية يعتمد التطرف لإرضاء جمهوره ومستوطنيه.
قائد سلاح الدفاع الصاروخي الإسرائيلي الجنرال تزفيكا هميوفيتز، قال على خلفية افتتاح القاعدة الأميركية إن بلاده لديها الكثير من الأعداء "حولنا وبالقرب منا وبعيدين عنا"، وهذا التصريح يبدو واضحاً لماذا يرفرف العلم الأميركي بشكل دائم على القاعدة العسكرية في إسرائيل.
نعم للطرفين الأميركي والإسرائيلي مصلحة من إقامة هذه القاعدة، كونها تشكل نوعاً من تعظيم القوة وتحصين القدرات الدفاعية الإسرائيلية التي تتطور عاماً بعد عام في ظل سباق عسكري واضح لتعزيز النفوذ في إقليم يغلي بمِرجَل.