لم يعد الهدف من المواجهة العسكرية كسلاح أساسي لتحرير فلسطين، يأخذ منحى جذرياً كما كان قبل 3 أو 4 عقود. وفي ظل ظروف فلسطينية داخلية، وعربية متردية، وإقليمية لديها من المشاكل ما يغنيها عن التفكير في القضية الفلسطينية.. كانت المواجهة المسلحة في مختلف المفاصل التاريخية تهدف بالأساس إلى خلق حراك سياسي بحده الأدنى بما يساهم في تغيير الواقع.
خلال العقد الأخير وفي ظل توقف عملية السلام وانهيارها، كان لا بد من التحرك على أكثر من صعيد من أجل ألا يكون واقع الاحتلال والاستيطان هو القاعدة.. ونعني هنا التحرك السياسي من خلال أدوات ضغط جديدة.
الفلسطينيون بدؤوا في العقد الأخير تفعيل سلاح المقاطعة سواء على المستوى الداخلي أو الخارجي، وبالذات الأوروبي، ولكن في كثير من الأحيان كانت الأمور تبدو وكأنها في أوجها بسبب حادثة ما أو سياسة عدوانية إسرائيلية تجاه الشعب الفلسطيني، ولكن سرعان ما تخف حدة المقاطعة أو تنتهي.
وبناء عليه، فإن كثيراً من حملات المقاطعة سواء على المستوى الاقتصادي أو الأكاديمي أو الثقافي أو حتى السياسي كانت تستمر فترةً ثم يخبو وهجها، لأننا لم نكن قادرين على التواصل، أو تحديث آليات المقاطعة بأشكالها المختلفة.
يمتلك الفلسطينيون في أوروبا الآن فرصةً لا تعوض، مع اندثار جيل كان يؤمن بعقدة الذنب تجاه اليهود.. بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية.. ولكن حتى هذا الجيل كان يرفض قبول فكرة الاحتلال أو الاعتداءات والجرائم التي يرتكبها الاحتلال، والتي تتناقض أساساً مع كثير من المفاهيم الحضارية التي تبناها الغرب بقوة، ومنها الحريات بأشكالها، والديمقراطية كأساس للحكم، ولكنه لم يكن قادراً على التصدي للسياسات الإسرائيلية.
في السنوات الأخيرة تشكّلَ كثيرٌ من اللجان التي بدأت تنظيم ذاتها من أجل مواجهة أخطر احتلال - بل وآخر احتلال في القرن الحادي والعشرين، والذي يضرب المثل والقيم الإنسانية كلها بعرض الحائط ويمارس مختلف أنواع الإرهاب والتدمير والطرد ومصادرة الأراضي والاستيلاء على المقدرات الاقتصادية والمائية والبيئية - بالضغط عليه لوقف سياسته المتناقضة مع أبسط مفاهيم القانون الدولي الإنساني. وأهم مجالين تم فيهما بناء سلاح المقاطعة هما الاقتصاد والأكاديميا.
ولعل قرار شركة أورانج للاتصالات - في المجال الاقتصادي - خير دليل على صحوة جيدة وإن جاءت متأخرة.. وهناك أيضاً شركات فرنسية ألغت عقودها مع شركات إسرائيلية.
ولكن الأهم من ذلك هو قرارات الاتحاد الأوروبي بمقاطعة منتجات المستوطنات الإسرائيلية، والتي أثارت ضجة إسرائيلية، وكانت هناك اتصالات وضغوط من اللوبي الصهيوني في العالم لوقف سياسة المقاطعة، وعلى الرغم من ذلك نلاحظ أن كثيرين بدؤوا الحديث بقوة في المحافل الأوروبية، ولم تعد جمل الترهيب تخيفهم، بل إن كثيراً من مراكز التسوق بدأت فعلاً تنزل منتجات المستوطنات من على رفوفها.. ولا ننسى في هذا المجال توقف النقابات المهنية والعمالية التي كانت دائماً مع المقاطعة، بل وفي كثير من الأحيان رفضت التعامل مع سفن الشحن التي تحمل بضائع إسرائيلية.
الشكل الثاني هو المقاطعة الأكاديمية، والتي بدأت خجولة قبل سنوات، ثم تبناها أكاديميون أحرار لهم تفكيرهم ومنهجهم الإنساني.. بل هم أول من استشعر خطورة الاحتلال الإسرائيلي على السلم العالمي.
المقاطعة الأكاديمية تمتد بسرعة وتطال أهم الجامعات العالمية في أوروبا وأميركا، وأساتذة الجامعات والطلبة المنخرطون في هذه المقاطعة يزداد يوماً بعد يوم.
وخلال هذا الشهر سيكون هناك أسبوع كامل حول المقاطعة في جامعة أكسفورد، وستكون نقابة الصحافيين ممثلةً في هذا الأسبوع من خلال معرض للصور.
اليوم نحن مطالبون بمزيد من الجهد الحقيقي والوطني المختلف من أجل تدعيم حركة المقاطعة، وخلق إستراتيجية طويلة الأمد ربما تكون بديلاً عن فشلنا في استخدام أسلحة أثبتت أنها لم تحقق لنا شيئاً في ظل المعادلات العربية والإقليمية والدولية السائدة.