06 حزيران 2015
كم مرة سنعاود الكتابة على هامش هذه الذكرى في العمر، والعمر يوشك ان ينقضي؟ جيل ينقضي وجيل قد وُلد وكبر وآخر يولد من جديد ويحث الخطى، ولكن آثار العدوان والحرب لا تزال حاضرة وماثلة وجاثمة على الصدر ولم تنقض.
رحل الزعماء والملوك الذين رفضوا الإقرار بالهزيمة وتعاهدوا على إزالة آثارها : فيصل وعبد الناصر وهواري بومدين وياسر عرفات وصدام حسين وحافظ الأسد، وما تركوا وراءهم غير الفراغ الذي ملأته حروب أهلية داخلية وانقسامات وعودة الى حرب داحس والغبراء وملوك الطوائف. لا يزال ينزف في تهتكها جسد الأمة دماً ودماً ودماً، كما لو ان الأمة تثأر من نفسها كما يفعل الطفل المعنف، الذي يواجه عنفاً لا قدرة له على صده، بأن يتحول الى تعنيف نفسه بنفسه.
لكن هل كانت عملية «صيد الديك الرومي» الاسم الحركي لهذه الحرب، والديك الرومي هنا ليس سوى زعيم الأمة وقائدها الخالد جمال عبد الناصر، واحدة من أسوأ حماقات التاريخ والقرارات المهلكة التي أقدمت عليها حكومة ليفي أشكول ودايان بالتواطؤ مع خليفة جون كينيدي في الإدارة الأميركية؟ حتى انتهى المطاف بهؤلاء الحمقى ان يكون مقابل القضاء على جمال عبد الناصر، إعادة إحياء وخلق القضية الفلسطينية ووضعها على نار حامية فوق الطاولة وفي صدارة الأجندة العالمية. أما كان الحري بهم لو كانوا أكثر حكمة واعتدالا في انفعالاتهم العدوانية ولكن الغبية والساذجة، لتركوا الضفة الغربية تذوب في مصيرها «وحدة الى المملكة الهاشمية ألف سنة أخرى». ويكتفي الشعبان الموحدان بترديد الأغاني والأهازيج عن «وين ع رام الله «.
وبالمقابل لتنعم غزة في ازدهارها الجميل تحت حكم إدارة الحاكم المصري الفريق يوسف العجرودي، الذي كان يواصل حكم الغزيين من قصره الأثير الذي هو تحفة معمارية بقفازات من حرير، والغزيون الذين لم يكن صيادوهم يجدون لفائض صيدهم ورزقهم الوفير زبائن يشترونه، سوى إتلافه وقد فاض عن استهلاك بطون الغزيين. كما كانوا يجدون حتى من دون ان يتوفروا على إنشاء ميناء البواخر والسفن الأجنبية ترسو في عرض بحرهم، لينقلوا في أفلاكهم الكبيرة التي يسمونها «جرم» صناديق فائض برتقالهم. بينما كان يصرح عبد الناصر وقد اغدق عليهم كل سبل الرخاء انه لا يملك خطة لتحرير فلسطين وان أولويته هي الاشتراكية والتصنيع الثقيل في مصر.
تعال اذاً يا ياسر عرفات، وائتِ بالوطنية الفلسطينية، بدلاً من الألاعيب والمناورات والمزايدات او المناكفات حول القضية الفلسطينية. وحركة فتح الناشئة حديثاً لمصلحة من ونكاية بمن؟ هيا اذا الى إحداث النقلة التاريخية الناشئة عن الهزيمة الحزيرانية وإحداث التحول بالانقلاب على اللعبة القديمة، وليس الهدف بعد الآن الجامع كما أقر في مؤتمر القمة الشهير في الخرطوم «إزالة آثار العدوان» ولكن لتصحيح طريقة سايكس بيكو التي اقتضت او أفضت الى حذف فلسطين.
ان حذف فلسطين من الخارطة الجغرافية للمنطقة انما كانت النتيجة الرئيسية للحرب العالمية الأولى فيما يخص العرب والفلسطينيين. وإذ نجحت الحركة الصهيونية بزعامة حزب العمل وبن غوريون في تظهير هذه النتيجة بعد الحرب العالمية الثانية، فإن التوسعية الإسرائيلية في حرب حزيران 1967، انما كانت هي الخطأ التاريخي القاتل الذي سيهدد بعد ذلك الإنجاز الصهيوني الكبير الذي تحقق في العام 1948.
فإذا أردت ان تحطم او تهزم قوى او مشروعا دعه يتمدد ويتوسع. خطأ تشارلمان الخامس وخطأ نابليون وهتلر الذي تكرر في الحروب الأوروبية الثلاث الكبرى. فما كان لدولة صغيرة بالكاد ترى على الخريطة، صغيرة بكل المقاييس الجيوسياسية ان تتمدد وتتوسع في حرب خاطفة وسريعة في غضون ستة أيام الى هذا الحد، وإذ استطاع خليفة عبد الناصر بوسائل القتال والمفاوضة السياسية ان يسترد سيناء، واستطاع الغزيون بالأخير ان يوصلوا إسرائيل اليمينية والمتطرفة بل وحتى الأيدلوجية الدينية، الى انه لا خيار سوى الهدنة مع غزة. فإن رام الله الناعمة والمثقفة لا يمكن الالتفاف عليها. فهنا سوف يقف عرفات أبو الوطنية الفلسطينية الذي صعد من حرب حزيران وقفته الأخيرة، وردد كلماته الأخيرة عن «العهد هو العهد والقسم هو القسم ونحن واياهم على محور وامتداد الزمن».
واليوم فقط فلسطين تبدو دولة كما لو انها دولة فلسطين الحاضرة والوليدة الجديدة الخارجة للتو من رحم هذا الحزيران، بكل قطع «الإكسسوار» المؤكد على حقيقتها. هنا عند هذه الحقيقة تأكد او تحقق ما قيل من ان الوطنية الفلسطينية، وطنية عرفات هي التي استطاعت التفوق على قومية العروبة التقليدية السابقة كما على الصهيونية.
هيا اذا نتحدث عن اليوم. ان باراك أوباما هو الذي يتحدث كما لو انه خليفة جون كينيدي المغدور عن العدالة التاريخية للفلسطينيين، الموجودة حصريا في تحرر الضفة وغزة باعتبارهما شطري فلسطين. هنا يحدث الانقلاب أمام ناظرينا في أوروبا كذلك، والسيناريو ما أسميناه هنا منذ وقت لحظتنا الجنوب افريقية، انما تتداعم مداميكها باطراد حتى توشك ان تلتف حول رقبة إسرائيل. أين إسرائيل اذا، الصغيرة ولكن القوية والمدهشة والمثيرة للإعجاب والتصفيق، والتي استطاعت ان تهزم أعداءها البرابرة الخشنين والمتخلفين في ستة أيام؟ من صورة تبدو فيها دولة مارقة مجرمة ومنحطة وقاسية ووحشية وقاتلة لم يعد بإمكان أميركا الدفاع عنها أمام العالم. اين ذهب كل ذلك العطف والدعم الفريد ؟
خاض الفلسطينيون في غضون الثمانية وأربعين عاما الماضية حربا بطيئة ولكن متواترة وطويلة النفس، وقال شارون في لحظة من يأسه أمام بأس وإرادة الفلسطينيين في غضون الانتفاضة الثانية، ان كل شيء يتقرر حول قوة هذه النفس. وبعد ثمانية وأربعين عاما كان نفسهم هو الأطول والأقوى: الغزيون في حروبهم الثلاثة وفي وجه الحصار، كما خليفة عرفات أبو مازن في رام الله الذي يوشك ان يجرد إسرائيل ويعريها من آخر قطعة لباس ترتديها.