الأفكار الأميركية الجديدة !

د. عبد المجيد سويلم.jpg
حجم الخط

قبل الحديث عن هذه الأفكار من حيث الفحوى، ومن حيث آليات القبول بها وتطبيقها، يظلّ السؤال الأسبق والأهم وهو: هل هناك من أفكار أميركية حتى الآن، وهل سيكون هناك أفكار من هذا النوع في القريب ـ قبل نهاية العام ـ مثلاً؟
حتى هذه اللحظة لا توجد مثل هكذا أفكار، وكافة الأفكار التي طرحت حتى الآن هي في الواقع تدور حول إجراءات وتدابير لا يمكن تصنيفها إلاّ في إطار (إعادة واستعادة الثقة)، وهي من حيث الجوهر تتمحور حول إمكانيات التعاون الاقتصادي بما في ذلك المشاريع المشتركة بين الجانبين، وزيادة عدد العمال الفلسطينيين العاملين في إسرائيل، وأخرى كثيرة ومتعددة، ولكنها تقع كلها تحت هذا التصنيف، وهي في أحسن الأحوال ليست سوى خطوات «تمهيدية» للولوج إلى الحلول السياسية. هذا أولاً.
أما ثانياً، فإن الطاقم الأميركي الذي يشرف على إعداد هذه الأفكار هو الطاقم الأكثر قرباً من اليمين الديني القومي المتطرف في تاريخ كل الطواقم التي عملت تحت كافة الإدارات الأميركية المتعاقبة.
فإذا كنّا في العقود الأخيرة نجد ملامح لغة مشتركة مع البعض من تلك الطواقم مثل مارتن انديك أو دنيس روس ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ فإن هذه الملامح تختفي مع الطاقم الحالي، وتكاد تنعدم اللغة (السياسية) المشتركة. وهذا كله ثانياً.
أما ثالثاً، فإن الإدارة الأميركية بكافة طواقمها العاملة والفاعلة حتى الآن ترفض الإفصاح عن قبولها بحل الدولتين، وليس لديها أية رؤى أو أفكار حول ماهية وجوهر ومضمون «الدولة» الواحدة، أو غيرها من الحلول.
كما أن هذه الإدارة ما انفكت تؤكد في كل مناسبة أنها مهتمة بالحل وملتزمة به دون أن تلزم نفسها بهذه الماهية للحل، ودون ان تتعرض بصورة حقيقية للاستيطان الذي يقتل كل إمكانية لأي حل من أي نوع كان.
رابعاً، الإدارة الأميركية تعرف أكثر من غيرها أن نتنياهو لا يمكن أن يقبل بأي حل في هذه المرحلة وذلك لمعرفته التامة أن «روحه» باتت بيد أحزاب التطرف المؤتلفة في الحكومة، وهو يدرك حق وكامل الإدراك أن الذهاب خارج ما تراه هذه الأحزاب ولو بخطوة واحدة مهما كانت شكلية وصغيرة سيعني تقديم الملف أو بالأحرى الملفات كلها للذهاب بها إلى المحكمة وليس إلى أي مكان آخر.
الإدارة الأميركية نفسها لا يمكن أن «تغامر» بطرح أفكار سياسية (هذا ولو افترضنا أن لديها رغبة من هذا النوع) على نتنياهو وهي تعرف وتدرك «حجم» المأزق الذي يعاني منه ودرجة «الابتزاز» التي سيتعرض لها.
ولأن الإدارة الأميركية تدرك ذلك، ولأنها على قناعة ويقين بأن القيادة الفلسطينية ترفض الاستعاضة عن الحل السياسي بالإجراءات والتدابير «الاقتصادية» فإنها (أي الإدارة الأميركية) لن تذهب إلى ما هو أبعد من محاولة «الجسر» بين الدولة المؤقتة والدولة «الدائمة» عبر الممر الوحيد والممكن بهذا الشأن وهو الإجراءات والتدابير الاقتصادية.
وحتى لو افترضنا أن أحزاب اليسار والوسط في إسرائيل أعطت لنتنياهو أي نوع من «شبكة الأمان» بضغطٍ من الإدارة الأميركية ـ على سبيل الافتراض ليس إلاّ ـ فإن نتنياهو نفسه بحكم مواقفه وحقيقة قناعاته الأيديولوجية لن يذهب بهذا الاتجاه، وسيفضل «الالتزام» الصارم بالدائرة التي تحددها له الأحزاب اليمينية المتطرفة، وذلك لأنه سيضمن بقاءه في رئاسة الوزراء، وسيراهن على الإفلات من تقديمه للمحاكمة.
أما «المهرب» الأميركي الممكن والوحيد فهو الدمج «الإبداعي» بين شذرات من الحل السياسي وفق رؤية المجتمع الدولي وبين الحل الإقليمي المطروح بقوة من الجانب الأميركي، والذي يمكن أن يلقى الكثير من الصدى في معظم العواصم العربية إذا حفظ للفلسطينيين «ماء الوجه» السياسي.
وإذا تبلور المفهوم الأميركي للدمج بين الدولة المؤقتة والدولة (الدائمة!؟) وإذا ما توفرت الإمكانية لحفظ «ماء الوجه العربي سياسياً» بالإشارة الى أهمية مبادرة السلام العربية وليس الحل وفق ما نصّت عليه، وما أكدت عليه، فإن أقصى ما يمكن أن تذهب إليه الإدارة الأميركية الحالية هو هذا الاطار وفي هذا السياق وليس غيره على الإطلاق.
إذن يمكن أن تطرح الإدارة الأميركية هكذا أفكار في نهاية العام ـ ليس تيمُّناً بالسنة الجديدة ولا توسُّماً بها، وإنما لأن هذه الإدارة ستكون مضطرة لانتظار التطورات الإقليمية نفسها، وما ستفضي إليه في غضون الأشهر الثلاثة أو الأربعة القادمة.
وكما يفهم من المداولات التي تجري في بعض مراكز الدراسات والأبحاث المتخصصة بشؤون المنطقة فإن الكثير من هذه المداولات تتمحور حول اتجاهين رئيسيين:
الأول، هو ضرورة «الإقدام» على طرح هكذا أفكار بسرعة لأن التأخير بها لن يزيد الأمر إلاّ تعقيداً، وقد يؤدي، أيضاً، إلى تسارع أزمات الإقليم، وأن من شأن مثل هذا الإقدام أن يعطي للإدارة الأميركية دفعةً قوية لإعادة ترتيب الإقليم وهو موقف لا تحبذه الإدارة بعد.
الثاني، يرى ضرورة انتظار الحالة المتأزّمة مع غيران، والنتائج التي ستترتب على الاستفتاء حيال المسألة الكردية في العراق وفي الإقليم، إضافةً إلى ضرورة  انتظار ما ستسفر عنه التطورات الميدانية في سورية، وكذلك التطورات السياسية في استانا وجنيف والارتباط العضوي والذي أصبح مُحكماً بين الميدان والتفاوض.
الإدارة ليس فقط محتارة ومترددة وربما تكون منفصلة عن الواقع في الكثير من التفاصيل المؤثرة في هذا الإقليم، وإنما ـ وهذا هو الأخطر ـ هي منحازة وتعيش على الكثير من الأفكار المسبقة والقناعات الفكرية الخاصة.
إذن، ليس هناك حتى تاريخه أفكار واضحة، وليس واضحاً إن كانت هذه الأفكار جاهزة للتقديم في غضون عدة شهور، وليس واضحاً فيما إذا كانت قابلة للتطبيق بالنظر إلى الواقع الإسرائيلي والمواقف الفلسطينية، وليس واضحاً إذا كان الحل «الإقليمي»، ممكناً وفيما إذا كانت دول الإقليم على درجة من الجاهزية والاستعداد والاستقرار للتعامل معه.
لهذا كله فإن لعبة شراء الوقت ما زالت هي الحقيقة الوحيدة التي نستطيع أن نجزم بشأنها، وإدارة الأزمات هي الوسيلة المتوفرة باليد، والذهاب إلى حلول ما زال برسم تطورات كثيرة لا تمتلك الإدارة الأميركية الأوراق الكاملة أو حتى الكافية لاتخاذ ما يلزم.