مواقف غير مفهومة للأزهر

عبد الغني سلامة.jpg
حجم الخط

بعد أن أدى أغنية «لسه فاكر» لأم كلثوم مرتدياً الزي الأزهري على إحدى الفضائيات، أوقفت وزارة الأوقاف المصرية الشيخ إيهاب يونس، وأحالته للتحقيق، وفي بيانها أفادت بأن ما صدر عنه من أعمال يتنافى مع طبيعة عمله، لذلك قرر الشيخ جابر طايع، رئيس القطاع الديني ورئيس لجنة القيم بوزارة الأوقاف منعه من الخطابة والإمامة والدروس الدينية.
يأتي قرار الأزهر في سياق تعزيز الدور التقليدي لرجال الدين، أي تكريس الصورة النمطية لرجال الدين، والتي تتوضح من خلال الزي والعمامة، واللحية.. علما أن الإسلام الحقيقي بصورته الأصلية لا يوجد فيه كهنوت، ولا رجال دين، والرسول وصحابته لم يكن لهم زي خاص، ولا مظهر مختلف عن سائر الناس.. لكن الفقهاء، في مراحل تاريخية لاحقة، ولتعظيم دورهم ومكانتهم في المجتمع، جعلوا لأنفسهم زيا ومظهرا خاصا، ومن خلال هذا الزي صاروا يستمدون قوتهم المعنوية في السيطرة والنفوذ (والاسترزاق)، وصارت السلطة تستفيد منهم وتقربهم، وتستخدمهم لفرض سلطانها ونفوذها على الناس.. وهو الدور التاريخي للكهنوت الديني.
ما فعله الشيخ إيهاب يونس، أنه كسر الصورة النمطية السائدة عن رجال الدين، وهي صورة وهمية غير حقيقية، يحاول أصحابها غرسها في ذهنية العامة، بأنهم أناس غير عاديين، ورعون للغاية، وجديون بصورة دائمة، لا يضحكون، ولا يطربون، ولا يمزحون، لا يعرفون سوى الخشوع وتلاوة القرآن، والتحدث في أمور الدين.... ما فعله الشيخ يونس، كان مجرد الغناء، بصوته الجميل العذب.. فعل عادي ومشروع يقوم به أي إنسان بشكل طبيعي، دون أن يثير استغراب أحد.. لكن الأزهر، يخشى كسر الصورة التي كونها عن رجاله عبر مئات السنين.
معركة الأزهر مع من يشق عصا الطاعة، ليست فقط ضد من يكسر الصورة النمطية لرجل الدين، بل أيضا مع اولئك الذين لهم رؤية أو اجتهاد يختلف عن الفقه السلفي الجامد، الذي يتبناه الأزهر.. بما في ذلك أزهريون، خرجوا بشجاعة، وانتقدوا ما رأوه خطأ في نهج الأزهر.
وفي شباط الماضي (2017) قضت محكمة مصرية، بمعاقبة الشيخ «محمد عبد الله نصر» (رئيس الاتحاد العالمي لعلماء الإسلام من أجل السلام) بالسجن 5 سنوات مع الشغل والنفاذ، بتهمة ازدراء الأديان، وجاء ذلك على خلفية اجتهاد الشيخ حول موضوع قطع يد السارق.
وفي وقت سابق قضت محكمة مصرية على الباحث الإسلامي إسلام البحيري، بالسجن خمس سنوات، تم تخفيضها إلى سنة.. بسبب برنامجه الذي كان يفند فيه بعض الخرافات المنسوبة للإسلام من خلال الأحاديث الضعيفة، بما في ذلك الأحاديث الواردة في صحيح البخاري.
وفي التسعينات، قضت محكمة مصرية بتكفير الباحث والمفكر نصر حامد أبو زيد، وبتفريقه عن زوجته، وذلك بسبب كتاباته الموضوعية عن نقد الفكر الديني، الأمر الذي أدى إلى نفيه خارج البلاد، ومن ثم وفاته في وقت لاحق.
الغريب، أن هؤلاء مفكرون إسلاميون، أو مشايخ تخرجوا من الأزهر، لم ينكروا ما هو معلوم من الدين بالضرورة، ولم يشككوا بآية من القرآن الكريم، أو بحديث صحيح متواتر، ولم يسخروا من الدين بشيء.. كل ما فعلوه أنهم اجتهدوا، وحاولوا تنقية التراث الإسلامي مما أصابه من شوائب، وتصويب بعض المفاهيم المغلوطة عن الإسلام.. لكنهم خرجوا بنتائج مغايرة للعقلية السلفية المغلقة التي تسيطر على الأزهر، انتقدوا الكتب والمناهج المقررة في الأزهر.. ومع ذلك عاقبهم الأزهر، وعاقبتهم وزارة الأوقاف!!
أما الأغرب، فهو موقف الأزهر والأوقاف من المشايخ والفقهاء الذين يحرضون على الفتنة الطائفية (وجدي غنيم مثلاً)، والمشايخ الذين خرجوا علينا بفتاوى ما أنزل الله بها من سلطان: إرضاع الكبير، نكاح الزوجة الميتة، نكاح البهيمة، قتل الأسير وأكل لحمه، مفاخذة الرضيعة، وزواج الطفلات الصغيرات... وخطباء الجمعة الذين يدعون بالشر على المسيحيين؛ بأن يهلك زرعهم، ويرمل نساءهم، وأن يدع دماءهم تجري بين أرجلهم.. وكذلك الذين يحرضون على الشيعة، ويصفونهم بالروافض والكفار، ويدعون لقتلهم وطردهم... فضلا عمن ينشرون الفكر الداعشي المتزمت المتشدد بكل ما يتضمنه من دعوات للقتل والتكفير والتفجير... أو الذين حرضوا علانية على قتل المفكر المصري فرج فودة، والمفكر الأردني ناهض حتر، والمفكر التونسي شكري بلعيد.
كل هؤلاء لم تستنكر المؤسسة الدينية أقوالهم وأفعالهم (ليس الأزهر وحسب، بل وفي سائر بلدان المسلمين).. لم تستدع أحداً منهم للتحقيق، أو لحبسه، أو منعه من الخطابة.. والسبب ببساطة أن الفكر الأصولي المتزمت يسيطر على الأزهر، ووزارات الأوقاف، والمؤسسات الدينية الرسمية والحزبية..
ما فعله الشيخ يونس، ومحمد عبد الله نصر، وإسلام البحيري، ومن قبلهم فرج فودة، ونصر حامد أبو زيد وغيرهم، يأتي في إطار معركة بين الأزهر والمفكرين المتنورين، تدور رحاها في المحاكم والجامعات والساحات.. وهي معركة قديمة ومستمرة، وأسبابها معروفة.. في هذه المعركة يسعى أصحاب الفكر المتشدد لفرض مفاهيمهم الفقهية والدينية والأيديولوجية على الخطاب الديني، وعلى برامج ومناهج الجماعات الإسلامية، ويسعون أيضا لاختراق كافة مؤسسات الدولة ومرافقها (الجيش، الأمن، القضاء، النقابات، الاقتصاد، الإعلام، الجامعات...) للهيمنة عليها وعلى المجتمع، وفرض مفاهيمهم على الناس، وتحديد أنماط حياتهم، وصولا إلى تغيير هوية الدولة، ليس في مصر وحسب؛ بل وفي دول عربية وإسلامية كثيرة.. ويستخدمون في سبيل ذلك العنف والاغتيالات والتفجيرات والإرهاب الفكري قبل لجوئهم للمحاكم..
الدواعش يفجرون ويقتلون ويخربون، والمشايخ يفتون لهم بذلك، أو يصمتون، والمؤسسة الرسمية، بدلا من محاسبة هؤلاء، تعاقب من يقف في وجه الفكر الداعشي!! موقف لا يدل سوى على اختراق  الداعشية فكر ومفاصل المجتمع والدولة..
إن لم نستفق قبل فوات الأوان.. ستصبح مدننا وحواضرنا نسخا مكررة عن الرقة ووادي سوات وتورا بورا..