تفسير القرآن الكريم «سورة البقرة» من الآية 164 إلى الآية 190

تفسير القرآن الكريم «سورة البقرة» من الآية 164 إلى الآية 190
حجم الخط

تفسير القرآن الكريم «سورة البقرة» من الآية 164 إلى الآية 190

 

 

{164}إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ

 

"إنَّ فِي خَلْق السَّمَاوَات وَالْأَرْض" وَمَا فِيهِمَا مِنْ الْعَجَائِب "وَاخْتِلَاف اللَّيْل وَالنَّهَار" بِالذَّهَابِ وَالْمَجِيء وَالزِّيَادَة وَالنُّقْصَان "وَالْفُلْك" السُّفُن "الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْر" وَلَا تَرْسُب مُوقَرَة "بِمَا يَنْفَع النَّاس" مِنْ التِّجَارَات وَالْحَمْل "وَمَا أَنْزَلَ اللَّه مِنْ السَّمَاء مِنْ مَاء" مَطَر "فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْض" بِالنَّبَاتِ "بَعْد مَوْتهَا" يُبْسهَا "وَبَثَّ" فَرَّقَ وَنَشَرَ بِهِ "فِيهَا مِنْ كُلّ دَابَّة" لِأَنَّهُمْ يَنْمُونَ بِالْخِصْبِ الْكَائِن عَنْهُ "وَتَصْرِيف الرِّيَاح" تَقْلِيبهَا جُنُوبًا وَشِمَالًا حَارَّة وَبَارِدَة "وَالسَّحَاب" الْغَيْم "الْمُسَخَّر" الْمُذَلَّل بِأَمْرِ اللَّه تَعَالَى يَسِير إلَى حَيْثُ شَاءَ اللَّه "بَيْن السَّمَاء وَالْأَرْض" بِلَا عَلَاقَة "لَآيَات" دَالَّات عَلَى وَحْدَانِيّته تَعَالَى "لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ" يَتَدَبَّرُونَ

 

{165} وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ

 

"وَمِنْ النَّاس مَنْ يَتَّخِذ مِنْ دُون اللَّه" أَيْ غَيْره "أَنْدَادًا" أَصْنَامًا "يُحِبُّونَهُمْ" بِالتَّعْظِيمِ وَالْخُضُوع "كَحُبِّ اللَّه" أَيْ كَحُبِّهِمْ لَهُ "وَاَلَّذِينَ آمَنُوا أَشَدّ حُبًّا لِلَّهِ" مِنْ حُبّهمْ لِلْأَنْدَادِ لِأَنَّهُمْ لَا يَعْدِلُونَ عَنْهُ بِحَالٍ مَا وَالْكُفَّار يَعْدِلُونَ فِي الشِّدَّة إلَى اللَّه "وَلَوْ يَرَى" تُبْصِر يَا مُحَمَّد "الَّذِينَ ظَلَمُوا" بِاِتِّخَاذِ الْأَنْدَاد "إذْ يَرَوْنَ" بِالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ وَالْمَفْعُول يُبْصِرُونَ "الْعَذَاب" لَرَأَيْت أَمْرًا عَظِيمًا وَإِذْ بِمَعْنَى إذَا "أَنَّ" أَيْ لِأَنَّ "الْقُوَّة" الْقُدْرَة وَالْغَلَبَة "لِلَّهِ جَمِيعًا" حَال "وَأَنَّ اللَّه شَدِيد الْعَذَاب" وَفِي قِرَاءَة تَرَى وَالْفَاعِل ضَمِير السَّامِع وَقِيلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا فَهِيَ بِمَعْنَى يَعْلَم وَأَنَّ وَمَا بَعْدهَا سَدَّتْ مَسَدّ الْمَفْعُولَيْنِ وَجَوَاب لَوْ مَحْذُوف وَالْمَعْنَى لَوْ عَلِمُوا فِي الدُّنْيَا شِدَّة عَذَاب اللَّه وَأَنَّ الْقُدْرَة لِلَّهِ وَحْده وَقْت مُعَايَنَتهمْ لَهُ وَهُوَ يَوْم الْقِيَامَة لَمَّا اتَّخَذُوا مِنْ دُونه أَنْدَادًا

 

{166} إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ

 

"إذْ" بَدَل مِنْ إذْ قَبْله "تَبَرَّأَ الَّذِينَ اُتُّبِعُوا" أَيْ الرُّؤَسَاء "مِنْ الَّذِينَ اتَّبَعُوا" أَيْ أَنْكَرُوا إضْلَالهمْ "وَ" قَدْ "رَأَوْا الْعَذَاب وَتَقَطَّعَتْ" عُطِفَ عَلَى تَبَرَّأَ "بِهِمْ" عَنْهُمْ "الْأَسْبَاب" الْوَصْل الَّتِي كَانَتْ بَيْنهمْ فِي الدُّنْيَا مِنْ الْأَرْحَام وَالْمَوَدَّة

 

{167} وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ

 

"وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّة" رَجْعَة إلَى الدُّنْيَا وَلَوْ لِلتَّمَنِّي وَنَتَبَرَّأ جَوَابه "فَنَتَبَرَّأ مِنْهُمْ" أَيْ الْمَتْبُوعِينَ "كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا" الْيَوْم "كَذَلِكَ" أَيْ كَمَا أَرَاهُمْ شِدَّة عَذَابه وَتَبَرَّأَ بَعْضهمْ مِنْ بَعْض "يُرِيهِمْ اللَّه أَعْمَالهمْ" السَّيِّئَة "حَسَرَات" حَال نَدَامَات "عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْ النَّار" بَعْد دُخُولهَا

 

{168} يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ

 

وَنَزَلَ فِيمَنْ حَرَّمَ السَّوَائِب وَنَحْوهَا "يَا أَيّهَا النَّاس كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْض حَلَالًا" حَال "طَيِّبًا" صِفَة مُؤَكِّدَة أَيْ مُسْتَلَذًّا "وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَات" طُرُق "الشَّيْطَان" أَيْ تَزْيِينه "إنَّهُ لَكُمْ عَدُوّ مُبِين" بَيِّن الْعَدَاوَة

 

{169} إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ

 

"إنَّمَا يَأْمُركُمْ بِالسُّوءِ" الْإِثْم "وَالْفَحْشَاء" الْقَبِيح شَرْعًا "وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّه مَا لَا تَعْلَمُونَ" مِنْ تَحْرِيم مَا لَمْ يُحَرِّم وَغَيْره

 

{170} وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ

 

"وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ" أَيْ الْكُفَّار "اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّه" مِنْ التَّوْحِيد وَتَحْلِيل الطَّيِّبَات "قَالُوا" لَا "بَلْ نَتَّبِع مَا أَلْفَيْنَا" وَجَدْنَا "عَلَيْهِ آبَاءَنَا" مِنْ عِبَادَة الْأَصْنَام وَتَحْرِيم السَّوَائِب وَالْبَحَائِر "أَوَلَوْ" يَتَّبِعُونَهُمْ وَالْهَمْزَة لِلْإِنْكَارِ "كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا" مِنْ أَمْر الدِّين "وَلَا يَهْتَدُونَ" إلَى الْحَقّ

 

{171} وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ

 

"وَمَثَل" صِفَة "الَّذِينَ كَفَرُوا" وَمَنْ يَدْعُوهُمْ إلَى الْهُدَى "كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ" يُصَوِّت "بِمَا لَا يَسْمَع إلَّا دُعَاء وَنِدَاء" أَيْ صَوْتًا وَلَا يَفْهَم مَعْنَاهُ أَيْ فِي سَمَاع الْمَوْعِظَة وَعَدَم تَدَبُّرهَا كَالْبَهَائِمِ تَسْمَع صَوْت رَاعِيهَا وَلَا تَفْهَمهُ هُمْ "صُمّ بُكْم عُمْي فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ" الْمَوْعِظَة

 

{172} يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ

 

"يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَات" حَلَالَات "مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ" عَلَى مَا أَحَلَّ لَكُمْ "إن كنتم إياه تعبدون"

 

{173} إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ

 

"إنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَة" أَيْ أَكْلهَا إذْ الْكَلَام فِيهِ وَكَذَا مَا بَعْدهَا وَهِيَ مَا لَمْ يُذَكَّ شَرْعًا وَأُلْحِقَ بِهَا بِالسُّنَّةِ مَا أُبِينَ مِنْ حَيّ وَخَصَّ مِنْهَا السَّمَك وَالْجَرَاد "وَالدَّم" أَيْ الْمَسْفُوح كَمَا فِي الْأَنْعَام "وَلَحْم الْخِنْزِير" خَصَّ اللَّحْم لِأَنَّهُ مُعْظَم الْمَقْصُود وَغَيْره تَبَع لَهُ "وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّه" أَيْ ذُبِحَ عَلَى اسْم غَيْره وَالْإِهْلَال رَفْع الصَّوْت وَكَانُوا يَرْفَعُونَهُ عِنْد الذَّبْح لِآلِهَتِهِمْ "فَمَنْ اُضْطُرَّ" أَيْ أَلْجَأَتْهُ الضَّرُورَة إلَى أَكْل شَيْء مِمَّا ذُكِرَ فَأَكَلَهُ "غَيْر بَاغٍ" خَارِج عَلَى الْمُسْلِمِينَ "وَلَا عَادٍ" مُتَعَدٍّ عَلَيْهِمْ بِقَطْعِ الطَّرِيق "فَلَا إثْم عَلَيْهِ" فِي أَكْله "إنَّ اللَّه غَفُور" لِأَوْلِيَائِهِ "رَحِيم" بِأَهْلِ طَاعَته حَيْثُ وَسَّعَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ وَخَرَجَ الْبَاغِي وَالْعَادِي وَيَلْحَق بِهِمَا كُلّ عَاصٍ بِسَفَرِهِ كَالْآبِقِ وَالْمَكَّاس فَلَا يَحِلّ لَهُمْ أَكْل شَيْء مِنْ ذَلِكَ مَا لَمْ يَتُوبُوا وَعَلَيْهِ الشَّافِعِيّ

 

{174} إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ

 

"إنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّه مِنْ الْكِتَاب" الْمُشْتَمِل عَلَى نَعْت مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ الْيَهُود "وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا" مِنْ الدُّنْيَا يَأْخُذُونَهُ بَدَله مِنْ سَفَلَتهمْ فَلَا يُظْهِرُونَهُ خَوْف فَوْته عَلَيْهِمْ "أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونهمْ إلَّا النَّار" لِأَنَّهَا مَآلهمْ "وَلَا يُكَلِّمهُمْ اللَّه يَوْم الْقِيَامَة" غَضَبًا عَلَيْهِمْ "وَلَا يُزَكِّيهِمْ" يُطَهِّرهُمْ مِنْ دَنَس الذُّنُوب "وَلَهُمْ عَذَاب أَلِيم" مُؤْلِم هُوَ النَّار

 

{175} أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ

 

"أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلَالَة بِالْهُدَى" أَخَذُوهَا بَدَله فِي الدُّنْيَا . "وَالْعَذَاب بِالْمَغْفِرَةِ" الْمُعَدَّة لَهُمْ فِي الْآخِرَة لَوْ لَمْ يَكْتُمُوا "فَمَا أَصْبَرهمْ عَلَى النَّار" أَيْ مَا أَشَدّ صَبْرهمْ وَهُوَ تَعَجُّب لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ ارْتِكَابهمْ مُوجِبَاتهَا مِنْ غَيْر مُبَالَاة وَإِلَّا فَأَيّ صَبْر لَهُمْ

 

{176} ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ

 

"ذَلِكَ" الَّذِي ذُكِرَ مِنْ أَكْلهمْ النَّار وَمَا بَعْده "بِأَنَّ" بِسَبَبِ أَنَّ "اللَّه نَزَّلَ الْكِتَاب بِالْحَقِّ" مُتَعَلِّق بِنَزَّلَ فَاخْتَلَفُوا فِيهِ حَيْثُ آمَنُوا بِبَعْضِهِ وَكَفَرُوا بِبَعْضِهِ بِكَتْمِهِ "وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَاب" بِذَلِكَ وَهُمْ الْيَهُود وَقِيلَ الْمُشْرِكُونَ فِي الْقُرْآن حَيْثُ قَالَ بَعْضهمْ شِعْر وَبَعْضهمْ سِحْر وَبَعْضهمْ كَهَانَة "لَفِي شِقَاق" خِلَاف "بَعِيد" عَنْ الْحَقّ

 

{177} لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ

 

"لَيْسَ الْبِرّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهكُمْ" فِي الصَّلَاة "قِبَل الْمَشْرِق وَالْمَغْرِب" نَزَلَ رَدًّا عَلَى الْيَهُود وَالنَّصَارَى حَيْثُ زَعَمُوا ذَلِكَ "وَلَكِنَّ الْبِرّ" أَيْ ذَا الْبِرّ وَقُرِئَ بِفَتْحِ الْبَاء أَيْ الْبَارّ "مَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْم الْآخِر وَالْمَلَائِكَة وَالْكِتَاب" أَيْ الْكُتُب "وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَال عَلَى" مَعَ "حُبّه" لَهُ "ذَوِي الْقُرْبَى" الْقَرَابَة "وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِين وَابْن السَّبِيل" الْمُسَافِر "وَالسَّائِلِينَ" الطَّالِبِينَ "وَفِي" فَكّ "الرِّقَاب" الْمُكَاتَبِينَ وَالْأَسْرَى "وَأَقَامَ الصَّلَاة وَآتَى الزَّكَاة" الْمَفْرُوضَة وَمَا قَبْله فِي التَّطَوُّع "وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إذَا عَاهَدُوا" اللَّه أَوْ النَّاس "وَالصَّابِرِينَ" نُصِبَ عَلَى الْمَدْح "فِي الْبَأْسَاء" شِدَّة الْفَقْر "وَالضَّرَّاء" الْمَرَض "وَحِين الْبَأْس" وَقْت شِدَّة الْقِتَال فِي سَبِيل اللَّه "أُولَئِكَ" الْمَوْصُوفُونَ بِمَا ذُكِرَ "الَّذِينَ صَدَقُوا" فِي إيمَانهمْ أَوْ ادِّعَاء الْبِرّ "وَأُولَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ" اللَّه

 

{178} يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ

 

"يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ" فُرِضَ "عَلَيْكُمْ الْقِصَاص" الْمُمَاثَلَة "فِي الْقَتْلَى" وَصْفًا وَفِعْلًا "الْحُرّ" يُقْتَل "بِالْحُرِّ" وَلَا يُقْتَل بِالْعَبْدِ "وَالْعَبْد بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى" وَبَيَّنَتْ السُّنَّة أَنَّ الذَّكَر يُقْتَل بِهَا وَأَنَّهُ تُعْتَبَر الْمُمَاثَلَة فِي الدِّين فَلَا يُقْتَل مُسْلِم وَلَوْ عَبْدًا بِكَافِرٍ وَلَوْ حُرًّا "فَمَنْ عُفِيَ لَهُ" مِنْ الْقَاتِلِينَ "مِنْ" دَم "أَخِيهِ" الْمَقْتُول "شَيْء" بِأَنْ تَرَكَ الْقِصَاص مِنْهُ وَتَنْكِير شَيْء يُفِيد سُقُوط الْقِصَاص بِالْعَفْوِ عَنْ بَعْضه وَمِنْ بَعْض الْوَرَثَة وَفِي ذِكْر أَخِيهِ تَعَطُّف دَاعٍ إلَى الْعَفْو وَإِيذَان بِأَنَّ الْقَتْل لَا يَقْطَع أُخُوَّة الْإِيمَان وَمَنْ مُبْتَدَأ شَرْطِيَّة أَوْ مَوْصُولَة وَالْخَبَر "فَاتِّبَاع" أَيْ فِعْل الْعَافِي اتِّبَاع لِلْقَاتِلِ "بِالْمَعْرُوفِ" بِأَنْ يُطَالِبهُ بِالدِّيَةِ بِلَا عُنْف وَتَرْتِيب الِاتِّبَاع عَلَى الْعَفْو يُفِيد أَنَّ الْوَاجِب أَحَدهمَا وَهُوَ أَحَد قَوْلَيْ الشَّافِعِيّ وَالثَّانِي الْوَاجِب الْقِصَاص وَالدِّيَة بَدَل عَنْهُ فَلَوْ عَفَا وَلَمْ يُسَمِّهَا فَلَا شَيْء وَرَجَحَ "و" عَلَى الْقَاتِل "أَدَاء" الدِّيَة "إلَيْهِ" أَيْ الْعَافِي وَهُوَ الْوَارِث "بِإِحْسَانٍ" بِلَا مَطْل وَلَا بَخْس "ذَلِكَ" الْحُكْم الْمَذْكُور مِنْ جَوَاز الْقِصَاص وَالْعَفْو عَنْهُ عَلَى الدِّيَة "تَخْفِيف" تَسْهِيل "مِنْ رَبّكُمْ" عَلَيْكُمْ "وَرَحْمَة" بِكُمْ حَيْثُ وَسَّعَ فِي ذَلِكَ وَلَمْ يُحَتِّم وَاحِدًا مِنْهُمَا كَمَا حَتَّمَ عَلَى الْيَهُود الْقِصَاص وَعَلَى النَّصَارَى الدِّيَة "فَمَنْ اعْتَدَى" ظَلَمَ الْقَاتِل بِأَنْ قَتَلَهُ "بَعْد ذَلِكَ" أَيْ الْعَفْو "فَلَهُ عَذَاب أَلِيم" مُؤْلِم فِي الْآخِرَة بِالنَّارِ أَوْ فِي الدُّنْيَا بِالْقَتْلِ

 

{179} وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ

 

"وَلَكُمْ فِي الْقِصَاص حَيَاة" أَيْ بَقَاء عَظِيم "يَا أُولِي الْأَلْبَاب" ذَوِي الْعُقُول لِأَنَّ الْقَاتِل إذَا عَلِمَ أَنَّهُ يُقْتَل ارْتَدَعَ فَأَحْيَا نَفْسه وَمَنْ أَرَادَ قَتْله فَشَرَعَ "لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ" الْقَتْل مَخَافَة الْقَوَد

 

{180} كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ

 

"كُتِبَ" فُرِضَ "عَلَيْكُمْ إذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ" أَيْ أَسْبَابه "إنْ تَرَكَ خَيْرًا" مَالًا "الْوَصِيَّة" مَرْفُوع بِكُتِبَ وَمُتَعَلِّق بِإِذَا إنْ كَانَتْ ظَرْفِيَّة وَدَالّ عَلَى جَوَابهَا إنْ كَانَتْ شَرْطِيَّة وَجَوَاب إنْ أَيْ فَلْيُوصِ "لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ" بِالْعَدْلِ بِأَنْ لَا يَزِيد عَلَى الثُّلُث وَلَا يَفْضُل الْغَنِيّ "حَقًّا" مَصْدَر مُؤَكِّد لِمَضْمُونِ الْجُمْلَة قَبْله "عَلَى الْمُتَّقِينَ" اللَّه وَهَذَا مَنْسُوخ بِآيَةِ الْمِيرَاث وَبِحَدِيثِ : ( لَا وَصِيَّة لِوَارِثٍ رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ

 

{181} فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ

 

"فَمَنْ بَدَّلَهُ" أَيْ الْإِيصَاء مِنْ شَاهِد وَوَصِيّ "بَعْدَمَا سَمِعَهُ" عَلِمَهُ "فَإِنَّمَا إثْمه" أَيْ الْإِيصَال الْمُبَدَّل "عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ" فِيهِ إقَامَة الظَّاهِر مَقَام الْمُضْمَر "إنَّ اللَّه سَمِيع" لِقَوْلِ الْمُوصِي "عَلِيم" بِفِعْلِ الْوَصِيّ فَمُجَازٍ عَلَيْهِ

 

{182} فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ

 

"فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ" مُخَفَّفًا وَمُثَقَّلًا "جَنَفًا" مَيْلًا عَنْ الْحَقّ خَطَأ "أَوْ إثْمًا" بِأَنْ تَعَمَّدَ ذَلِكَ بِالزِّيَادَةِ عَلَى الثُّلُث أَوْ تَخْصِيص غَنِيّ مَثَلًا "فَأَصْلَحَ بَيْنهمْ" بَيْن الْمُوصِي وَالْمُوصَى لَهُ بِالْأَمْرِ بِالْعَدْلِ "فَلَا إثْم عَلَيْهِ" فِي ذَلِكَ "إن الله غفور رحيم"

 

{183} يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ

 

"يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ" فُرِضَ "عَلَيْكُمْ الصِّيَام كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلكُمْ" مِنْ الْأُمَم "لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ" الْمَعَاصِي فَإِنَّهُ يَكْسِر الشَّهْوَة الَّتِي هِيَ مَبْدَؤُهَا

 

{184} أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ

 

"أَيَّامًا" نُصِبَ بِالصِّيَامِ أَوْ يَصُومُوا مُقَدَّرًا "مَعْدُودَات" أَيْ قَلَائِل أَوْ مُؤَقَّتَات بِعَدَدٍ مَعْلُوم وَهِيَ رَمَضَان كَمَا سَيَأْتِي وَقَلَّلَهُ تَسْهِيلًا عَلَى الْمُكَلَّفِينَ "فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ" حِين شُهُوده "مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَر" أَيْ مُسَافِرًا سَفَر الْقَصْر وَأَجْهَدَهُ الصَّوْم فِي الْحَالَيْنِ فَأَفْطَرَ "فَعِدَّة" فَعَلَيْهِ عِدَّة مَا أَفْطَرَ "مِنْ أَيَّام أُخَر" يَصُومهَا بَدَله "وَعَلَى الَّذِينَ" لَا "يُطِيقُونَهُ" لِكِبَرٍ أَوْ مَرَض لَا يُرْجَى بُرْؤُهُ "فِدْيَة" هِيَ "طَعَام مِسْكِين" أَيْ قَدْر مَا يَأْكُلهُ فِي يَوْمه وَهُوَ مُدّ مِنْ غَالِب قُوت الْبَلَد لِكُلِّ يَوْم وَفِي قِرَاءَة بِإِضَافَةِ فِدْيَة وَهِيَ لِلْبَيَانِ وَقِيلَ لَا غَيْر مُقَدَّرَة وَكَانُوا مُخَيَّرِينَ فِي صَدْر الْإِسْلَام بَيْن الصَّوْم وَالْفِدْيَة ثُمَّ نُسِخَ بِتَعْيِينِ الصَّوْم بِقَوْلِهِ مَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْر فَلْيَصُمْهُ قَالَ ابْن عَبَّاس : إلَّا الْحَامِل وَالْمُرْضِع إذَا أَفْطَرَتَا خَوْفًا عَلَى الْوَلَد فَإِنَّهَا بَاقِيَة بِلَا نَسْخ فِي حَقّهمَا "فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا" بِالزِّيَادَةِ عَلَى الْقَدْر الْمَذْكُور فِي الْفِدْيَة "فَهُوَ" أَيْ التَّطَوُّع "خَيْر لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا" مُبْتَدَأ خَبَره "خَيْر لَكُمْ" مِنْ الْإِفْطَار وَالْفِدْيَة "إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ" أَنَّهُ خَيْر لَكُمْ فَافْعَلُوهُ

 

{185} شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ

 

تِلْكَ الْأَيَّام "شَهْر رَمَضَان الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآن" مِنْ اللَّوْح الْمَحْفُوظ إلَى السَّمَاء الدُّنْيَا فِي لَيْلَة الْقَدْر مِنْهُ "هُدًى" حَال هَادِيًا مِنْ الضَّلَالَة "لِلنَّاسِ وَبَيِّنَات" آيَات وَاضِحَات "مِنْ الْهُدَى" بِمَا يَهْدِي إلَى الْحَقّ مِنْ الْأَحْكَام "وَالْفُرْقَان" وَمِنْ الْفُرْقَان مِمَّا يُفَرَّق بَيْن الْحَقّ وَالْبَاطِل "فَمَنْ شَهِدَ" حَضَرَ "مِنْكُمْ الشَّهْر فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَر فَعِدَّة مِنْ أَيَّام أُخَر" تَقَدَّمَ مِثْله وَكُرِّرَ لِئَلَّا يُتَوَهَّم نَسْخه بِتَعْمِيمِ مَنْ شَهِدَ "يُرِيد اللَّه بِكُمْ الْيُسْر وَلَا يُرِيد بِكُمْ الْعُسْر" وَلِذَا أَبَاحَ لَكُمْ الْفِطْر فِي الْمَرَض وَالسَّفَر لِكَوْنِ ذَلِكَ فِي مَعْنَى الْعِلَّة أَيْضًا لِلْأَمْرِ بِالصَّوْمِ عُطِفَ عَلَيْهِ "وَلِتُكْمِلُوا" بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيد "الْعِدَّة" أَيْ عِدَّة صَوْم رَمَضَان "وَلِتُكَبِّرُوا اللَّه" عِنْد إكْمَالهَا "عَلَى مَا هَدَاكُمْ" أَرْشَدكُمْ لِمَعَالِم دِينه "وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ" اللَّه عَلَى ذَلِكَ

 

{186} وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ

 

وَسَأَلَ جَمَاعَة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَرِيب رَبّنَا فَنُنَاجِيه أَمْ بَعِيد فَنُنَادِيه فَنَزَلَ "وَإِذَا سَأَلَك عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيب" مِنْهُمْ بِعِلْمِي فَأَخْبَرَهُمْ بِذَلِكَ "أُجِيب دَعْوَة الدَّاعِي إذَا دَعَانِي" بِإِنَالَتِهِ مَا سَأَلَ "فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي" دُعَائِي بِالطَّاعَةِ "وَلْيُؤْمِنُوا" يُدَاوِمُوا عَلَى الْإِيمَان بِي "بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ" يَهْتَدُونَ

 

{187} أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ

 

"أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَة الصِّيَام الرَّفَث" بِمَعْنَى الْإِفْضَاء "إلَى نِسَائِكُمْ" بِالْجِمَاعِ نَزَلَ نَسْخًا لِمَا كَانَ فِي صَدْر الْإِسْلَام عَلَى تَحْرِيمه وَتَحْرِيم الْأَكْل وَالشُّرْب بَعْد الْعِشَاء "هُنَّ لِبَاس لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاس لَهُنَّ" كِنَايَة عَنْ تَعَانُقهمَا أَوْ احْتِيَاج كُلّ مِنْهُمَا إلَى صَاحِبه "عَلِمَ اللَّه أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ" تَخُونُونَ "أَنْفُسكُمْ" بِالْجِمَاعِ لَيْلَة الصِّيَام وَقَعَ ذَلِكَ لِعُمَرَ وَغَيْره وَاعْتَذَرُوا إلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "فَتَابَ عَلَيْكُمْ" قَبْل تَوْبَتكُمْ "وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآن" إذْ أُحِلَّ لَكُمْ "بَاشِرُوهُنَّ" جَامِعُوهُنَّ "وَابْتَغُوا" اُطْلُبُوا "مَا كَتَبَ اللَّه لَكُمْ" أَيْ أَبَاحَهُ مِنْ الْجِمَاع أَوْ قَدْره مِنْ الْوَلَد "وَكُلُوا وَاشْرَبُوا" اللَّيْل كُلّه "حَتَّى يَتَبَيَّن" يَظْهَر "لَكُمْ الْخَيْط الْأَبْيَض مِنْ الْخَيْط الْأَسْوَد مِنْ الْفَجْر" أَيْ الصَّادِق بَيَان لِلْخَيْطِ الْأَبْيَض وَبَيَان الْأَسْوَد مَحْذُوف أَيْ مِنْ اللَّيْل شِبْه مَا يَبْدُو . مِنْ الْبَيَاض وَمَا يَمْتَدّ مَعَهُ مِنْ الْغَبَش بِخَيْطَيْنِ أَبْيَض وَأَسْوَد فِي الِامْتِدَاد "ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَام" مِنْ الْفَجْر "إلَى اللَّيْل" أَيْ إلَى دُخُوله بِغُرُوبِ الشَّمْس "وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ" أَيْ نِسَاءَكُمْ "وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ" مُقِيمُونَ بِنِيَّةِ الِاعْتِكَاف "فِي الْمَسَاجِد" مُتَعَلِّق بِعَاكِفُونَ نَهْي لِمَنْ كَانَ يَخْرُج وَهُوَ مُعْتَكِف فَيُجَامِع امْرَأَته وَيَعُود "تِلْكَ" الْأَحْكَام الْمَذْكُورَة "حُدُود اللَّه" حَدَّهَا لِعِبَادِهِ لِيَقِفُوا عِنْدهَا "فَلَا تَقْرَبُوهَا" أَبْلَغ مِنْ لَا تَعْتَدُوهَا الْمُعَبَّر بِهِ فِي آيَة أُخْرَى "كَذَلِكَ" كَمَا بَيَّنَ لَكُمْ مَا ذُكِرَ "يُبَيِّن اللَّه آيَاته لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ" مَحَارِمه

 

{188} وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ

 

"وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالكُمْ بَيْنكُمْ" أَيْ يَأْكُل بَعْضكُمْ مَال بَعْض "بِالْبَاطِلِ" الْحَرَام شَرْعًا كَالسَّرِقَةِ وَالْغَصْب "و" لَا "تُدْلُوا" تُلْقُوا "بِهَا" أَيْ بِحُكُومَتِهَا أَوْ بِالْأَمْوَالِ رِشْوَة "إلَى الْحُكَّام لِتَأْكُلُوا" بِالتَّحَاكُمِ "فَرِيقًا" طَائِفَة "مِنْ أَمْوَال النَّاس" مُتَلَبِّسِينَ "بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ" أَنَّكُمْ مُبْطِلُونَ

 

{189} يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ

 

"يَسْأَلُونَك" يَا مُحَمَّد "عَنْ الْأَهِلَّة" جَمْع هِلَال لَمْ تَبْدُو دَقِيقَة ثُمَّ تَزِيد حَتَّى تَمْتَلِئ نُورًا ثُمَّ تَعُود كَمَا بَدَتْ وَلَا تَكُون عَلَى حَالَة وَاحِدَة كَالشَّمْسِ "قُلْ" لَهُمْ "هِيَ مَوَاقِيت" جَمْع مِيقَات "لِلنَّاسِ" يَعْلَمُونَ بِهَا أَوْقَات زَرْعهمْ وَمَتَاجِرهمْ وَعِدَد نِسَائِهِمْ وَصِيَامهمْ وَإِفْطَارهمْ "وَالْحَجّ" عُطِفَ عَلَى النَّاس أَيْ يَعْلَم بِهَا وَقْته فَلَوْ اسْتَمَرَّتْ عَلَى حَالَة لَمْ يَعْرِف ذَلِكَ "وَلَيْسَ الْبِرّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوت مِنْ ظُهُورهَا" فِي الْإِحْرَام بِأَنْ تَنْقُبُوا فِيهَا نَقْبًا تَدْخُلُونَ مِنْهُ وَتَخْرُجُونَ وَتَتْرُكُوا الْبَاب وَكَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ وَيَزْعُمُونَهُ بِرًّا "وَلَكِنَّ الْبِرّ" أَيْ ذَا الْبِرّ "مَنْ اتَّقَى" اللَّه بِتَرْكِ مُخَالَفَته "وَأْتُوا الْبُيُوت مِنْ أَبْوَابهَا" فِي الْإِحْرَام "وَاتَّقُوا اللَّه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ" تَفُوزُونَ

 

{190} وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ

 

وَلَمَّا صُدَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْبَيْت عَام الْحُدَيْبِيَة وَصَالَحَ الْكُفَّار عَلَى أَنْ يَعُود الْعَام الْقَابِل وَيُخْلُوا لَهُ مَكَّة ثَلَاثَة أَيَّام وَتَجَهَّزَ لِعُمْرَةِ الْقَضَاء وَخَافُوا أَنْ لَا تَفِي قُرَيْش وَيُقَاتِلُوهُمْ وَكَرِهَ الْمُسْلِمُونَ قِتَالهمْ فِي الْحَرَم وَالْإِحْرَام وَالشَّهْر الْحَرَام نَزَلَ "وَقَاتِلُوا فِي سَبِيل اللَّه" أَيْ لِإِعْلَاءِ دِينه "الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ" الْكُفَّار "وَلَا تَعْتَدُوا" عَلَيْهِمْ بِالِابْتِدَاءِ بِالْقِتَالِ "إنَّ اللَّه لَا يُحِبّ الْمُعْتَدِينَ" الْمُتَجَاوِزِينَ مَا حَدّ لَهُمْ وَهَذَا مَنْسُوخ بِآيَةِ بَرَاءَة أَوْ بِقَوْلِهِ :