في مقال الأسبوع الماضي ركبنا موج التفاؤل والاستبشار، وانسجمنا مع حال الترحاب العارمة للناس بتباشير البداية.
كانت زيارة حكومة الوفاق الى غزة عنوان تلك التباشير.
في "زيارة" الحكومة الى غزة، اكدت حضورها وولايتها وتسلمت مقرات وزاراتها والتقت ببعض الجهات وعقدت اجتماعا لها. لم تحل المشاكل التي امل الناس ان تحلّها، ولم يكن بيدها فعل ذلك. لكن كان يمكن للوزارة، او كان يمكن ان يسمح لها، القيام بحل جزئي لبعض المشاكل كبادرة وإشارة ايجابية تريح وتشجع الناس، مثل زيادة ساعات وصل وانارة الكهرباء.
عنوان الفرح والاستبشار هذا الاسبوع هو زفة الابتهاج بالاتفاق الفلسطيني.
الزفة طغت كثيرا على التساؤلات عن تفاصيل الاتفاق، وكأنّ الاهم بالنسبة للناس هو التوصل الى اتفاق، فقد كان لديها جوع ازمن لعقد من السنين انتظاراً له.
كانت الزفة عامة وشاملة، لكنها كانت اكثر إبهاراً في غزة المكتوية بنار الانقسام في تفاصيل حياتها اليومية وفي تفاصيل احتياجاتها الحياتية الماسة، وفي حرياتها ايضا. وعاد العلم الوطني الفلسطيني يزين ساحات الزفة بألوانه الأربعة بعد ان ظل ضيفا مزويّاً على اعلام اللون الواحد لسنوات طوال.
عاد التفاؤل والامل ليعمر قلوب الناس بعد سنين عجاف من الخيبات وبهتان الامل.
الدور المصري كان حاسماً في الوصول الى الاتفاق ويستمر حاسماً في مراقبة التنفيذ، ويواصل دوره في استكمال بقية موضوعات وعناوين المصالحة الوطنية على اكمل وجه.
اهلنا، وكل تعبيراتهم السياسية والمجتمعية قالوا شكراً لمصر ورفعوا علمها وصور رئيسها.
هل يكون هذا الدور المصري مقدمة لعودة مصر شديد الضرورة والالحاح الى موقعها الطبيعي في قياد الركب العربي؟
اقتصر اجتماع المصالحة والاتفاق الذي صدر على فتح وحماس، وغابت بقية التنظيمات، مع ان الاجتماع انصبّ اساسا على تنفيذ اتفاق القاهرة 2011 الذي وقعت عليه جميع التنظيمات وايدته الجماهير وقوى المجتمع الوطني. هذا يترك اجتماع التنظيمات في الشهر القادم شكلياً "للعلم والخبر" وللمصادقة على ما تحقق في الثنائي.
هل انتهى الامر وتحقق المنى وغاب الانقسام الى غير رجعة؟
ما زال مبكراً قول ذلك بثقة واطمئنان، فبلاوي عشر سنين من الانقسام المقيت تضرب عميقاً في السياسة والعلاقات وفي التشريع والقانون وفي الجهاز الاداري والامن وفي السلاح، وفي كل هموم المواطن واساسيات حياته وحرياته، ولا يمكن تجاوزها بايام ولا اسابيع، ولا بشهور قليلة. لكن تبقى البداية مبشرة وتقوي الأمل.
وكما تقابل مساعي المصالحة والاتفاق الذي تحقق، بالامل والاستبشار من الاغلبية الواسعة للناس والقوى السياسية والمجتمعية، فانها تقابل بالاستهانة من قبل البعض، وبالتشكك بالنتائج والنجاح من بعض آخر، وبالتشكك ممزوجاً بالتخوف من بعض ثالث.
من الصواب، كما حصل في الاتفاق المعلن، تركيز البداية على عنوان تمكين الحكومة من تولي ولايتها وممارسة مهامها وصلاحياتها بشكل كامل وتام وسلس، مع عنوان حل القضايا الاكثر ضرورة والحاحا للناس، وبحيث يستمر العنوانان مترافقين ومتلازمين تماما. هذا ما يبني الثقة والاطمئنان ويفتح الطريق سهلا وميسرا الى معالجة العناوين الاخرى، مثل حكومة الوحدة الوطنية، ومنظمة التحرير وانعقاد المجلس الوطني والبرنامج السياسي النضالي. وعنوان السلاح ايضا، فهذا هو موقعه وتوقيته الطبيعيان للنقاش والاتفاق، وليس كما هو حاصل الآن على الفضائيات بشكل متعجل وافتراضي خلافي.
في صلب مخاوف وشكوك المتخوفين والمتشككين، تقع الرغبة والطموح الجادان لدى القوى العالمية والاقليمية النافذة، لوضع المصالحة الفلسطينية، واي حدث آخر في المنطقة، في مسار وبانسجام مع الرؤية الدولية للمنطقة وترتيب مستقبلها بشكل عام، وفي صلبها رؤية حل الصراع العربي الاسرائيلي، وبالتبعية، الصراع الفلسطيني الصهيوني.
لكن هذه الرؤية كما تقول مؤشراتها الواضحة وضوح الشمس لا تقدم للفلسطينيين شيئا يمكن ان يختلفوا عليه وعلى رفضه الكلي والمطلق.
العنوان الفلسطيني في هذه الرؤيا هو "صفقة القرن" التي يعد بها الرئيس الاميركي ولم يقدمها بعد. لكن مقدماتها وتباشيرها لا تترك مجالا للاجتهاد حول مضامينها.
من هذه المقدمات :
- ادارة الرئيس ترامب لم تعلن للآن التزامها الموقف الاميركي التقليدي، كما استمرت تتبناه الادارات السابقة لحل الصراع الفلسطيني الاسرائيلي، القائم اساسا على مبدأ حل الدولتين، وغير الراضي ( والرافض في بعض الحالات) من جهة ثانية عن الاستيطان والمستوطنات لانها تعيق الحل السياسي.
- الطاقم الذي عينه الرئيس ترامب للتحضير لصفقة القرن وتمهيد الطريق امامها هو فريق صهيوني منحاز لدولة العدو بامتياز غير مسبوق؟
- شروط الرئيس الاميركي الاخيرة على المصالحة : اعتراف حركة حماس بدولة الاحتلال ( الاعتراف عادة لا يطلب الا من الدول وليس من الاحزاب ولا حتى من الحكومات)، واعترافها بالاتفاقات السابقة، ونزع سلاحها.
من باب الانسجام التام والتكامل والمونة، اضاف نتنياهو شرطين: وقف التحريض، وقطع العلاقة مع طهران، واضاف بينيت شرطين آخرين: وقف صرف رواتب الاسرى، ووقف تحويل مستحقات السلطة الوطنية.
المقابل الوحيد الواضح لكل هذه الاثمان، هو شطب نهائي، اجماعي، وواقعي بكل تعبيراته المؤكدة، وحقائق الامر الواقع المغروسة في الاراضي المحتلة، لمبدأ حل الدولتين ولاقامة دولة فلسطينية باي شكل ومحتوى، وشطب القدس ايضا.
هل يوجد، "وطني فلسطيني" يمكن ان يقبل بهذه الرؤية وحلولها؟
وهل يمكن الاختلاف ان قدرتنا على مجابهة هذه الرؤيا وحلولها هي اقوى بكثير ونحن موحدون على قواسم مشتركة يقوم اساسها على التمسك بثوابتنا الوطنية الفلسطينية الراسخة؟
اي تخوّف، مهما كانت صدق ووطنية دوافعه، لا يجب تعارضه مع تسارع المصالحة. وممكن جدا ان يكون دعوة للحذر والتيقظ، والى التمسك بالثوابت.
