إذا كانت الدبلوماسية الناعمة من الممكن أن تصنع إنجازاً، فلا حاجة لغبار المعارك، هذا بالضبط ما يحدث فى الفترة الأخيرة من تطورات متسارعة على صعيد ملف غزة، قطاع غزة المحاصر منذ سنوات القابع فى العتمة والفقر والحصار أصبح مركز الاهتمام بعد تجاهل دولى وصمت عربى داما طويلاً، وإذا كان الهدف من التحركات الأخيرة هو الخروج من عنق الزجاجة فى ظل المتغيرات المحيطة فإن خيارات حماس لم تعد مرهونة بحلفائها (قطر وتركيا) فقط أو بدور الرئيس أبومازن وما تجود به السلطة الفلسطينية من فتات على غزة حتى لو اضطرت للتحالف مع أعداء الأمس لفك عقدة الحصار، عملاً بمبدأ عدو عدوى صديقى، وهو ما حدث بالفعل!
عودة محمد دحلان، القيادى المفصول من حركة فتح بقوة إثر قيامه بدور فعال فى معركة غزة حركت المياه الراكدة لإنقاذ القطاع الذى بات على شفا هاوية ويزحف نحو المجهول، طرحت سؤالاً كبيراً يتعلق بقدرة مشروع حماس ومشروع دحلان على التعايش فى ضوء التناقض الشديد بينهما، فى الوقت الذى تسعى فيه السلطة الفلسطينية إلى تلمس موقعها فى خريطة القوى الجديدة فى غزة، خصوصاً بعد إجراءاتها بحق القطاع وموقفها من الانقسام، فأعطت المجال لخصمها اللدود محمد دحلان للمناورة بالعودة من بوابة الحصار على قطاع غزة والقيام بالدور المناط به إقليمياً ودولياً على الساحة الفلسطينية، اتجه دحلان إلى حركة حماس كحل أمثل حتى يستطيع أن يستعيد مجده المفقود فى ظل الصراع ضد الرئيس عباس، ومن هنا ليس من المستبعد أن يطأ دحلان مسقط رأسه غزة انطلاقاً من المصالح المشتركة التى يمكن أن تعطى للرجل فرصة فى جمع صفوف حركته المشتتة على الأقل فى قطاع غزة، والتى يحظى فيها بدعم وتأييد وشعبية كبيرة تؤهله لاستعادة ما فقده منذ خروجه منها، ويستعد لليوم التالى لما بعد الرئيس عباس، ربما ضمن تسوية إقليمية وصفقة سياسية للرئيس الأمريكى دونالد ترامب (صفقة القرن) يكون دحلان جزءاً منها على حساب رئيس السلطة الفلسطينية، حيث إن إسرائيل لن تكون فى الجانب الخاسر مهما كانت ملامح وتداعيات هذا التقارب، ومن جهة ثانية يساعد فى تخفيف الحصار عن غزة وفتح المعابر بصفته مهندس اتفاق المعابر عام 2005 الذى يدعمه الاتحاد الأوروبى.
لقد بدأ تصوير دحلان الذى تربطه علاقات جيدة بمصر ودولة الإمارات على أنه الشخص الذى أنقذ غزة بعد أن ساهم فى السماح بمرور مئات الأطنان من الوقود المقبل من مصر تعويضاً عن التقليص فى تزويد إسرائيل للكهرباء وبدعم الإمارات ومساعدتها بالأموال، وبذلك نزع فتيل وضع كارثى بدأت تظهر توابعه، وفى الوقت ذاته وجه لطمة قوية لخصمه الرئيس محمود عباس، ويبدو أن المرحلة المقبلة ستشهد تطورات مؤثرة بعد عودة دحلان إلى المشهد السياسى بقوة وتقدمه إلى الصدارة، وسيكون لها آثار كبيرة على مستقبل قطاع غزة المحاصر، إذ ينظر إلى دحلان الآن على النقيض من أبومازن بأنه الشخص القادر على حل مشاكل غزة وربما حتى إنقاذ الفلسطينيين من مشاكلهم الكبيرة وأزماتهم المستعصية، وهذا يعنى أن دحلان تحول إلى تهديد سياسى حقيقى على الرئيس عباس الذى عمل بجهد لعزله من فتح ومن وجوده فى المشهد السياسى الفلسطينى.
هل يطمح محمد دحلان إلى دور مركزى فى المستقبل؟ وما طبيعة العلاقة التى ستكون بينه وبين حركة حماس؟! الواقع يقول إنه بفضل القاهرة ودحلان سيتم تخفيف أزمات ذات تأثير على حماس تعزز من مكانتها ومكانة دحلان الذى أصبح بحكم الأمر الواقع بمثابة وزير خارجية غزة، فى حين أن مكانة الرئيس أبومازن آخذة فى التآكل، والتوافق الواضح الذى شهدته الفترة الماضية بين دحلان وحماس يظهر انسجاماً واتفاقاً على الأقل يسمحان بالتفاهم والتقاسم السياسى فى المرحلة المقبلة، خاصة أن دحلان ويحيى السنوار مسئول حماس فى غزة رجلا القوة والتناقض، فكلاهما يعرف الآخر منذ الطفولة فقد نشآ معاً فى أحد مخيمات القطاع ودرسا معاً فى الجامعة الإسلامية، وتنافسا على رئاسة رابطة الطلاب خلال الدراسة الجامعية فى بداية الثمانينات، لكن ذلك لم يمنع من وجود فجوة كبيرة فى التوجهات والأفكار بين دحلان، الذى كان مسئولاً عن التنسيق الأمنى مع إسرائيل فى غزة عندما كان رئيساً لجهاز الأمن الوقائى فى التسعينات، وبين السنوار الرجل المتطرف الذى قضى 22 عاماً فى السجون الإسرائيلية ويقود الجناح المتشدد فى حركة حماس.
إن هذا التحالف الاستراتيجى البراجماتى يقود إلى سيناريوهات محتملة ربما تغذيها الأحداث والوقائع فى المرحلة المقبلة، فإذا تقدم الاتفاق بالصورة المتوقعة وتم فتح معبر رفح الحدودى بين مصر وغزة لفترات طويلة ومستقرة وزود القطاع بالوقود والكهرباء، فقد تصبح غزة نوعاً من الكيان السياسى المنفصل عن الضفة الغربية، فى حين تواصل إسرائيل الإبقاء على وجودها واحتلالها للضفة الغربية، وهو الأمر الذى يتفق مع حلم قطاعات واسعة من اليمين الإسرائيلى المتطرف بما يقضى بظهور دولة فلسطينية بحكم الأمر الواقع فى غزة!
عن الوطن المصرية