الوقاحة البريطانية في مئوية بلفور

عبد الغني سلامة.jpg
حجم الخط

شكّل وعد بلفور نقطة تحول مهمة في الصراع العربي الصهيوني، بيد أنه لم يكن نقطة تحول تاريخية في السياسة البريطانية؛ فلم يكن قطعا تاريخيا فجائيا، بل كان مجرد تتويج لنهج سياسي دؤوب بدأ قبل ذلك بزمن طويل، ولم تكن بريطانيا أول دولة تعد اليهود بإقامة وطن قومي لهم، فقد سبقتها فرنسا وألمانيا، وذلك في إطار التسابق الاستعماري بين الدول الكبرى للهيمنة على المنطقة العربية.
ولم يكن وعد بلفور البداية الأولى لفكرة الوطن القومي لليهود، بل إن هذه الفكرة تمتد بجذورها إلى القرن السادس عشر، حيث تبلورت في إطار ما سمي "المسيحية الصهيونية" التي وضعت المقدمات الحقيقية لظهور الصهيونية العملية، وأدت لقيام إسرائيل.
هذا التيار المتصهين جاء على خلفية الصراع الديني بين الطوائف المسيحية، وإيمان إحداها بأن اليهود شعب الله المختار، وأن عودتهم لفلسطين تجسيد لنبوءات التوراة والإنجيل.
ورغم بروز البعد الديني للوعد، إلا أنه لم يكن عاملا حاسما ولا رئيسا في إصداره، بل كان ستارا يخفي وراءه الأطماع الاستعمارية، لكنه شكل عامل تقوية ودفع للمشروع الصهيوني، على الأقل من الناحية الإعلامية، ولجذب أنظار اليهود أنفسهم ولإقناعهم بالمشروع الصهيوني، واختلاق أسس دينية تاريخية له.
ومن الجدير بالذكر أن بلفور ليس هو من صاغ الوعد الشهير الذي اقترن باسمه، إنما صاغته لجنة صهيونية مكونة من "ناحوم سوكولوف" و"هربرت صموئيل" و"حاييم وايزمان" وغيرهم، وقد تم تقديم ستة مشاريع صيغ للتصريح من قبل الحركة الصهيونية، إلى أن تم اعتماد الصيغة النهائية.
بهذا التصريح المكون من 117 كلمة حسب النص الإنجليزي، أو 72 كلمة حسب النص العربي، غيّر "بلفور" تاريخ وجغرافية منطقة بالكامل، حيث أدّت نتائجه إلى اقتلاع شعب من أرضه، من دون حق أو سند قانوني أو أخلاقي، ليُزرع مكانه شعب آخر، عُمل على استجلابه من كلّ أصقاع الدنيا، برواية تاريخية دينية مزيّفة.
وهذا ما دفع المؤرّخ الكبير "أرنولد توينبي" إلى الإعلان أنه "كإنكليزي يشعر بالخجل والندم الشديدين على ازدواجية المعايير الأخلاقية التي حكمت سلوك حكومة بلاده في الإقدام على هذه الفعلة المنكرة".
ويمكن القول إن وعد بلفور مهّد لنكبة فلسطين، بيد أن مقدمات النكبة الفلسطينية كانت قد بدأت فعليا قبل تأسيس إسرائيل بزمن طويل، وفي مكان بعيد جداً عن فلسطين؛ تحديدا في أوروبا في أواخر القرن التاسع عشر؛ حيث كانت أوروبا الكولونيالية (وتحديداً بريطانيا) في ذلك الوقت تصوّب أنظارها نحو الوطن العربي، وتخطط لزرع كيان تابع لها ليكون أداةً بيدها، فالتقت هذه التوجهات مع مصالح الفئات اليهودية المستفيدة، في حين عارضتها قطاعات واسعة من اليهود، ورفضت التورط في هذه المغامرة، بل وأطلقت على دعاتها تسمية الصهيونية اللاسامية.
في تلك الأثناء وقبلها كانت الجماعات اليهودية تعيش في أوروبا أوضاعا صعبة، في غيتوات مغلقة، وقد ظن الغرب المسيحي (الكاثوليكي) أنه بحربهِ على اليهود وحصرهم في تلك الغيتوات، سيخدم بذلك الديانة المسيحية، ويُخَلِّص أوروبا من مشاكلهم، ولكنه في النتيجة أسهم من حيث لا يدري بالحفاظ على الخصوصية اليهودية وسط التقلبات التي عصفت بأوروبا في تلك الحقبة.
ومن ناحية أخرى فقد أدت المذابح التي تعرض لها اليهود في روسيا إلى خلق ما سُمي المسألة اليهودية، وأمام هذه المشكلة انحصر طرح المفكرين اليهود في أربعة خيارات، هي باختصار: الاندماج في المجتمعات التي يسكنون بها مقابل حصولهم على المواطنة، أو التنصر واعتناق المسيحية، أو انتظار المسيح المخلِّص، والذي لن يأتي – حسب اليهودية الأرثوذكسية - إلا عندما يكون اليهود في أسوأ وضع ممكن من الاضطهاد، وأخيرا الهجرة إلى أميركا والعالم الجديد.
ومن الجدير بالذكر أن "هرتزل" نفسه عندما طرح فكرة الدولة اليهودية، لم تكن دوافعه دينية بالأساس، فهو قومي علماني، بل أعلن استعداده لقبول استيطان اليهود في أوغندا أو الأرجنتين، أما المسيحيون المتصهينون فقد آمنوا بأن فلسطين هي وطن اليهود، واعتبروا عودتهم إليها شرطا لعودة المسيح، لذا انتقدوا موقف "هرتزل" المتساهل.
وباستثناء المسيحية الصهيونية، وحتى ذلك الوقت، لم يبرز أي تيار يهودي يدعو إلى القومية الصهيونية والوطن القومي، أو من يقول بأرض الميعاد، إلى أن تبنّى هذا الطرح بعض الزعامات اليهودية التقليدية التي فقدت مبررات وجودها وامتيازاتها مع تعاظم تيار الاندماج، إلى جانب بعض الفئات البرجوازية اليهودية التي وجدت مصالحها بالانخراط في المشروع الاستعماري الجديد (آل روتشيلد).
أي أن الصهيونية ظلت تيارا هامشيا في أوساط الجماعات اليهودية، إلى أن طرأت تغيرات كبرى في نهاية القرن التاسع عشر في روسيا وأوروبا تحديدا، أدت إلى بروز دور البرجوازية اليهودية، وتحالفها مع قيادات الدول الاستعمارية والتقاء مصالحهما عند نقطة واحدة: إقامة الكيان الإسرائيلي.
من جانب آخر، فقد عمد النظام الرأسمالي في أوروبا، إلى إعادة إحياء المسألة اليهودية من منزع ديني، أي إعادة إحياء الطابع الديني للمسألة اليهودية، وتشجيع الفكر الصهيوني ورواده، بالرغم من تناقض هذا التوجه مع عقلانية عصر النهضة وفلسفته التنويرية والإنسانية القائمة على الديمقراطية والمواطنة، ذلك لأن قوة المصالح الرأسمالية طغت على كل الشعارات والأسس الفكرية التي ميزت عصر النهضة، فذهبت صوب إحياء البعد الديني التوراتي الغيبي كذريعة تختفي وراءها تلك المصالح الرأسمالية.
وهنالك الكثير من المقدمات التاريخية والدينية والسياسية التي سبقت ومهدت لصدور الوعد، سواء من خلال دور المسيحية الصهيونية، أو من خلال الظروف السياسية التي حدثت قبيل وأثناء الحرب العالمية الأولى.. 
في المحصلة، صدر الوعد المشؤوم، وبدأت بريطانيا بعمل كل ما بوسعها لتنفيذه، وإخراجه إلى حيز الوجود.. غير آبهة بالظلم التاريخي الذي سيلحق بالشعب الفلسطيني..
وبعد مائة عام من الجريمة، لا تزال بريطانيا مصرة على جريمتها، ولم تخجل من تاريخها الاستعماري الدموي، ولم تعتذر للشعوب التي اضطهدتها ونهبت خيراتها.. وفي أوقح تصريح عنصري قالت تيريزا ماي إن بلادها ستحتفل بمئوية بلفور بكل فخر!!
ستظل دماء الفلسطينيين وآلامهم ونكباتهم لعنة تطارد بلفور، وكل من سار على دربه.