مئوية بلفور: لسنا في أحسن حال

د.عاطف أبو سيف.jpg
حجم الخط

بالطبع لم يكتشف الفلسطينيون فجأة أن مائة عام مرت على وعد بلفور، وهم لا يهوون الاحتفال بمثل هذه الأحداث المأساوية، بقدر حاجتهم إلى إعادة التذكير بالجرم الذي حل بهم جراء تلك الممارسات غير الأخلاقية التي انتزعت حقوقهم منهم.
ولكن يظل السؤال الأساس هو ماذا لو لم يكن ثمة وعد من قبل بلفور، هل كان المشروع الاستيطاني الإحلالي سيتوقف؟ 
يرتبط بذلك أن الواقع الفلسطيني ليس أحسن حالاً منه في ذلك الزمن. من الصعب الإجابة لأن الافتراض قائم على إعادة موضعة للأحداث التاريخية ضمن سياقات مختلفة.
لكن المؤكد أن ثمة حاجة لإعادة فهم التاريخ من أجل التخفيف من حدة وقعه على كاهل التطلعات الوطنية بطريقة مغايرة، ولأنه من الصعب تصور التاريخ السياسي الفلسطيني دون وجود هذا الوعد المشؤوم فإن من المؤكد أن إعادة تخيل التاريخ تعني فهماً أعمق لميكانزمات تحوله، وللمواقف المختلفة التي تم تبنيها.
والقصة ليست في إعادة تفسير التاريخ، بقدر الوقوف على بواطنه ودوافع واستخلاص العبر لصالح النظر للمستقبل.
والسؤال المثير هو هل اختلفت الذكرى المئوية عن ذكرى 99 عاماً على الوعد، وهل ستختلف عن الذكرى المائة وعشرين؟ الذي يختلف هو الواقع الفلسطيني. لذا فإن السؤال الأكثر إثارة سيكون حول واقعنا وما أنجزناه وما منعنا حدوثه، وكيف يختلف كل هذا عن تلك الأيام الخوالي من العام 1917 حين خط بلفور بقلمه المشؤوم وعداً سلبت بناء عليه أرضنا منا وأعطيت لغيرنا.
وبداية كل حديث يجب أن تكون لماذا لم يتم منع تحقيق الوعد طالما أن أكثر من ثلاثين سنة مرت بين الوعد والنكبة لم يتم خلالها وقف تحقيقه رغم الانتفاضات والثورات والهبات التي عمت فلسطين خلال تلك الفترة السوداء من عمر الانتداب البريطاني لفلسطين.
وفي هذا السياق ورغم أن كلمة انتداب تشير إلى صيغة قانونية فإن جزءاً من إعادة وعينا وفهمنا للتاريخ أن ما جرى لم يكن انتداباً بل احتلالاً للبلاد تمت خلاله سرقتها، لأن انتداب كلمة تعني أوضاعاً مختلفة غير تلك التي تمت فيها عملية سرقة فلسطين من أبنائها ومنحها للمستوطنين الفارين من نيران الحروب الأوروبية والمذابح التي لم يكن للفلسطينيين أي ذنب فيها.
وبالعودة إلى الواقع الفلسطيني فإن حلول الذكرى المائة قد لا يختلف عن حلولها بعد عقد من الزمن إلا مع اختلاف الواقع الفلسطيني.
ماذا يخبرنا الواقع الفلسطيني بعد قرن من الزمن على وعد بلفور. أولاً لم ننجح في منع الكارثة. صحيح أن الأمواج كانت عاتية وأن القوة الأعظم في العالم وقتذاك - بريطانيا - كانت تقف وراء تحقيق الوعد وكانت قوة الاحتلال في البلاد، لكن رغم ذلك وقعت الكارثة وحلت المصيبة وتمت عملية تطهير عرقي لسكان البلاد الأصليين وهدم قراهم وهدم أجزاء كبيرة من مدنهم وتوطين المهاجرين في بيوتهم وتحويل أماكن ترفيههم وعبادتهم لصالح السكان الجدد الذين يعجزون عن قراءة لغة الأرض.
أيضاً رغم ذلك لم تتم معالجة آثار النكبة.
المؤسسة الدولية التي أحدثت النكبة عبر مأسستها للقرارات الجائرة بحق الشعب الفلسطيني خاصة قرار التقسيم الجائر ومن ثم الاعتراف بإسرائيل العام 1949 وعدم إجبارها على تنفيذ حتى تلك القرارات الجائرة بما تمنحه من حقوق جزئية للفلسطينيين، هذه المؤسسة تتكون الآن من جزء كبير من الدول العربية والإسلامية، وتبدو المشاركة فيها غاية تقصد، ونحن كفلسطينيين وعملاً بالسائد من الدبلوماسية نناضل من أجل دخولها، وهذا حق.
لكن ما أقوله إن المجتمع السياسي العربي والإسلامي فشل في تقويض المؤسسة التي هدمت أحلام الفلسطينيين.
وربما ومن باب التخيل لو أن الدول العربية الحادية والعشرين والدول الإسلامية التي تصل إلى أكثر من خمسين دولة (تضم الدول العربية)، انسحبت من المنظمة الدولية هل كانت ستظل هذه المنظمة تحتفظ بحق بصفة منظمة الأمم، أم منظمة قوى معينة فيه.
قد يقول قائل إن الأمم المتحدة وجدت قبل استقلال ثلاثة أرباع أعضائها، وهذا صحيح، ولكن الحقيقة تظل أن شرعيتها الحقيقية في حقبة ما بعد الاستعمار أخذتها من هذا التواصل ومن تلك العضويات الجديدة. وهذا نقاش آخر.
أيضاً لم تقم الدولة الفلسطينية بشكل كامل ومحقق. صحيح أن الفلسطينيين قطعوا شوطاً كبيراً في سبيل تثبيت حقوقهم ولو على جزء ضئيل من أرض الآباء والأجداد، جزء مازالت إسرائيل تنازعهم السيطرة عليه وتحتله، لكنهم مازالوا لا يملكون دولة بالمعنى الحقيقي.
وهذا يعكس وهن التاريخ وضعفه، وتخاذل الكثيرين وعدم فهم ضرورة وجود دولة فلسطينية في لحظة تاريخية معينة خاصة قبل النكبة حيث ركنت النخب السياسية على الوعود البريطانية ولم تقم بفرضها، وربما يكون الأمر أكثر مرارة بعد النكبة حين تم إجهاض حكومة عموم فلسطين.
وهذا مرة أخرى إعادة قراءة للتاريخ قد تحتوي على بعض الإجحاف، لكنها مشروعة لأن الواقع لم يتبدل كثيراً.
وأيضاً حتى بريطانيا التي اقترفت الجرائم بحقنا مازالت على المستوى الرسمي تحتفل ببهحة بانتصارها في سرقة حقوقنا ومنحها لغيرنا.
صحيح أن موقف السيد كوربن زعيم المعارضة النبيل موضع تقدير، لكن لابد أننا فشلنا في إشعار القصر وداوننج ستريت بالأزمة الأخلاقية والكارثة المعنوية وبالعار الذي لابد أن يشعروا به وهم يتذكرون جريمتهم بحقنا.
وأيضاً الفلسطينيون أمضوا عقداً كاملاً من هذا القرن المؤلم منقسيمن. دائماً تذكروا الانقسام البغيض لأنه لم يذهب نهائياً بعد، ولأنه حين يذهب يجب أن نواصل تذكره حتى لا نعود إليه. يجب أن نتذكر كيف دمر صورتنا في العالم وأهدر طاقاتنا حتى نتجنب الوصول إليه مرة أخرى. وصدقوا أن الشر لا يذهب، فقط إرادتنا تجعله يتراجع للخلف.
هل هذا وضع مثالي ونحن نتذكر كيف قامت جرة قلم بشطب حقوقنا؟ هل وضعنا يقول إننا بخير.
نحن بخير لأننا لم نذهب في سراديب التاريخ المعتمة، لم نصبح مجرد ذكريات عن مجموعة بشرية سكنت الأرض وتماهت مع محيطها بعد طردها من أرضها وتشتتها.
وهنا علينا تذكر ياسر عرفات كما في كل مرة للدور الذي قام به. نحن بخير لأننا رغم كل شيء مازلنا نتذكر هذا الظلم الكبير الذي وقع علينا والذي يجب تغييره بالبحث عن استعادة تلك الحقوق.