تفسير آية: إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها

تفسير آية: إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها
حجم الخط

رام الله - وكالة خبر

تفسير آية: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ﴾

قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ[1] إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ الله نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ﴾ (النساء: 58).

لم يشرع الله الدين إلا ليصون النفوس عن ميولها الدنية، ويصرفها عن إرادتها السيئة، ويقهر السرائر، ويزجر الضمائر، وليكون هو الرقيب على النفوس في خلواتها، والناصح لها في ملماتها، قال بعض الحكماء: الأدب: أدبان، أدب شريعة وأدب سياسة؛ فأدب الشريعة ما أدى الغرض، وأدب السياسة ما عمر الأرض، وكلاهما يرجع إلى الأمانة والعدل اللذين بهما سلامة الإنسان، وعمارة البلدان، فإن من ترك الفرض ظلم نفسه، ومن خرب الأرض ظلم نفسه وغيره.

وهذه آية باهرة من أمهات الأحكام، تضمنت جماع الدين والشرع، وضربت في السياسة المبنية على الحق والصدق بسهم وافر؛ وقد نزلت يوم فتح مكة[2] في عثمان بن طلحة حين أغلق باب الكعبة؛ وكان سادنها[3]وأبى أن يدفع المفتاح إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقال: لو علمت أنه رسول الله لما منعته منه. فأخذه علي بن أبي طالب منه قسراً بعد أن لوى يده، ودخل الرسول سلام الله عليه الحرم وصلى ركعتين وأمر بإزالة الأصنام. فلما خرج سأله العباس أن يعطيه مفتاح البيت فيجمع له السقاية والسدانة، أنزل الله هذه الآية الكريمة، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم علياً أن يرد المفتاح إلى عثمان ويعتذر إليه، فقال عثمان لعلي: أكرهت وآذيت ثم جئت ترفق؟ فقال كرم الله وجهه: لقد أنزل الله في شأنك قرآناً، وقرأ عليه ((إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها)) (الآية)، فقال – وقد اهتز عِطفه، وارتفع طرفه، وانشرح صدره – ورب الكعبة كلام فيه شفاء الصدور وجلاء الأمور، إني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.

قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكعبة وهو يقرأ هذه الآية، وما كنت سمعتها قبل منه ودعا عثمان وأخاه شيبة وقال: خذاها خالدة تالدة لا ينزعها عنكما إلا ظالم[4].

إن نزول هذه الآية الكريمة بسبب هذه الحادثة لا يوجب كونها مخصوصة بها[5]، بل يدخل فيها جميع أنواع الأمانات. وبدهي أن معاملة الإنسان إما أن تكون مع ربه أو مع سائر العباد، أو مع نفسه؛ ولا بد من رعاية الأمانة في جميع هذه الأقسام الثلاثة وبيانها:

1- أما رعاية الإنسان للأمانة مع ربه، فهي في امتثال أوامره، واجتناب نواهيه، قال ابن مسعود رضي الله عنه، الأمانة لازمة في كل شيء، حتى الوضوء والغسلة والصلاة والزكاة والصوم وسائر أنواع العبادات.

وهذا النوع لعمري بحر لا ساحل له، فإن كل عضو من أعضاء الإنسان أمانة عنده، يجب عليه أن يحفظه وألا يستعمله إلا في الأمور الشرعية، والغايات النبيلة؛ ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، لأن هذه الأعضاء نعمة من نعم الله، وواجب على العبد أن يشكر نعمة ربه لينال الزيادة، قال تعالى:((لئن شكرتم لأزيدنكم))، وأداء أمانة النعم واجب.

2- وأما رعاية الإنسان لأمانته مع أخيه الإنسان فهي عدل الحاكم في حكمه، وإخلاص في نصحه وتعليمه، وصدق التاجر في بيعه وشرائه، وإتقان كل ذي عمل عمله، وقيام كل امرئ بواجبه نحو أبناء هذا المجتمع كافة، إذ لا يكون المؤمن مؤمناً حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه. ويدخل في هذا النوع تأنيب أهل الكتاب على كتمانهم رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم؛ الواردة صريحة في إنجيلهم[6] وقولهم لكفار قريش إنهم أهدى من محمد وأصحابه سبيلاً وهم يعلمون بأن الإسلام حق، وأن رسالة محمد ظاهرة كالشمس في رابعة النهار، ولكن الحسد وحب الرياسة أعمى أبصارهم فتاهوا في الضلال، وأخذوا يكتمون الحق وهم يعلمون، وكذلك رد الرسول صلى الله عليه وسلم مفتاح الكعبة إلى عثمان وأخيه، وأمانة الزوجة نحو بعلها، وألا تلحق به ولداً يولد من غيره.

3- رعاية الإنسان الأمانة مع نفسه، بأن يختار ما ينفعها في الدنيا والأخرى، ويصلح شأنها حاضرها ومستقبلها، ويعودها القناعة، وأن تكون راضية مرضية مطمئنة لأحكام الله وتعاليم الرسول. لقد عظم الله أمر الأمانة في مواضع كثيرة من كتابه الكريم، فقال: ﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ﴾ [الأحزاب: 72] وظاهر أن المراد بالأمانة (والله أعلم) احتمال عهد التكليف وما ينجم عنه من الثواب والعقاب والطاعة والمعصية، فالإنسان بطبيعته واستعداده وقابليته تلقى هذا التكليف، والسموات والأرض والجبال لعدم استعدادهن وقابليتهن بفطرتهن لم يستطعن تحمله، وما أجمل قوله تعالى في حق الإنسان: ﴿ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ﴾ فإن الظلوم من لا يكون عادلاً ومن شأنه أن يعدل، والجهول من لا يكون عالماً ومن شأنه أن يعلم، وتلك حال الإنسان، أما غيره فصنفان: صنف عالم عادل لا يعتوره الظلم والجهل أبداً، وهؤلاء هم الملائكة، وصنف غير متصف بالعدل والعلم وليس من شأنه ذلك كله، كالبهائم والجمادات. ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ ﴾ أيها الناس والحكام وولاة الأمور  ﴿ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ﴾ وهي كل ما ائتمنتم عليه من قول أو عمل أو مال أو علم، وبالجملة كل ما يكون عند الإنسان من النعم التي تفيد نفسه وغيره فليسلم ذلك إلى أربابه.

(للبحث صلة)

المصدر: مجلة التمدن الإسلامي، السنة الرابعة، العدد الخامس، 11357هـ - 1358هـ - 1938م

[1] جمع أمانة، وهي مصدر سمي به اسم المفعول (الفخر الرازي).

[2] كان ذلك الفتح العظيم في صباح يوم الجمعة لعشرين خلت من رمضان من السنة الثانية للهجرة (اهـ نور اليقين).

[3] السادن خادم الكعبة وبيت الأصنام، والجمع سدنة مثل كافر وكفرة، وسدن من باب كتب، والسدانة بالكسر الخدامة، والسدن الستر، وزناً ومعنى. اهـ (الجمل على الجلالين).

[4] وهبط جبريل على النبي - صلى الله عليه وسلم - وقتئذ وأخبره أن السدانة باقية في أولاد عثمان وأخيه شيبة أبداً (اهـ الفخر الرازي). فهي باقية فيهم إلى يومنا هذا.

[5] لأن العبرة بعموم اللفظ لا لخصوص السبب، كما هو مقرر في علم الأصول.

[6] ورد في إنجيل برنابا الذي ظهر من زمن قريب وأخفته الجهالة ذكر اسم النبي محمد صلى الله عليه وسلم صراحة وترجم إلى العربية وهو الآن مطبوع بمصر. اهـ (نور اليقين) وقد حدثني أستاذي العلامة المرحوم الشيخ توفيق الأيوبي رحمه الله أنه قرأ هذا الإنجيل.\

معنى الأمانة وشمولها لجميع الأعمال
أداء الأمانة
الأمانة من توجيهات النبوة
الأمانة أمان
خلق الأمانة (خطبة)