انتحار جماعي للبشر (2 من 2)

عبد الغني سلامة.jpg
حجم الخط

في مرحلة ما من الزمن السحيق، كان عدد سكان الأرض ضئيلا جدا، لدرجة أنهم كانوا معرضين للانقراض، وكانوا يقيمون في منطقة واحدة، على شكل جماعات متناثرة.. وكلما اقترب عدد الجماعة من الثلاثين فردا تصبح موارد المنطقة بالكاد تكفيهم، فتغادر منهم أسرة إلى منطقة جديدة تبعد نحو ثلاثين ميلا أو أكثر، لتكوّن نواة جماعة جديدة.. وهكذا انتشر البشر في ربوع العالم القديم، وتحولت تلك البقاع إلى قرى ومدن في مراحل لاحقة.
قبل قرون قليلة من الزمان، بلغ سكان العالم بضع مئات من الملايين، وكانت جائحات الطاعون والحصبة والجدري تحصد أرواح الناس حصدا، فكانت إلى جانب الحروب تخفف من حدة التكاثر السكاني اللوغاريتمي.. لذلك احتاجت البشرية قرونا عديدة حتى أتمت مليارها الأول، والذي بلغته العام 1805، ثم تسارعت وتيرة التكاثر شيئا فشيئا إلى أن اكتمل المليار السابع في العام 2011.
ومع الزيادات المطّردة في تعداد السكان، ومع استمرار استنـزاف الإنسان لموارد الأرض، وتواصل تعدّياته على البيئة، ونقصان المساحات الصالحة للزراعة، وزيادة التصحر، وشح موارد المياه، فإن المستقبل سيبدو مرعبا، وسيكون العالم بلا رحمة، ولا مكان فيه للضعفاء.. ولكن الضعفاء هم دائما الأغلبية الساحقة، لذا قد تصبح حروب البشر حينها ضرورة بيئية، وأمراً لا مفر منه، ولكنها ستكون شديدة التدمير، وسيكون ضحاياها بالمليارات.
اليوم، يواصل الخط البياني لمجمل سكان الأرض صعوده بارتفاع متزايد، على شكل متوالية هندسية، وما هي إلا مسألة وقت حتى نصل للمليار العاشر، ثم العشرين.. ولا أحد يضمن ألّا يحدث انفجار سكاني يفوق التوقعات، فيصل التعداد إلى مائة مليار إنسان، سيشكلون سكان الأرض في يوم ما في المستقبل.
الأرض فيها من الخيرات والموارد ما يكفي سكانها.. لكنَّ المشكلة في انعدام العدالة في توزيع هذه الموارد بين البشر.. هذا الظلم والخلل في التوزيع كان منذ فجر التاريخ، وما زال قائما للآن، ولا يساورني شك أنه سيظل قائما في المستقبل، طالما أن الرأسمال الجشع هو الذي يسيطر على مقدرات العالم، فئة قليلة جداً من الناس، لا تتعدى الـ1% تتحكم في مفاتيح الاقتصاد والسياسة والصناعة والتجارة.. بيدها قرار الحرب والسلم، وهي التي تدير دفة هذا الكوكب.. وهذه الفئة المريضة بالنرجسية والأنانية ستقود كوكبنا إلى كارثة نهائية.. تماما كما فعل قائد قطيع الحيتان المريض، فسار بهم إلى المياه الضحلة، ليلاقوا حتفهم هناك.. وهذا الاحتمال الأول.
الأسباب التي كانت تدفع الناس لقتال بعضها في الماضي، هي نفسها التي ما زالت تولّد الحروب إلى يومنا هذا.. النتيجة سابقا هي تخفيف عدد سكان المنطقة، حتى تكفي مواردها من نجا من الحرب.. فإذا كان للحرب 99 سيئة، فإن لها حسنة وحيدة تأتي كعارض جانبي؛ هي التحكم في اندفاعات تكاثر البشر إلى حد معين.. ما يعني أن صراع البقاء في الغابة وبين الحيوانات بالرغم من وحشيته وقسوته إلا أنه يضمن تحقيق التوازن البيئي والتنوع الحيوي.. وهذا الصراع على البقاء بين البشر بالرغم من تخلفه وبشاعته يشبه تماما في الوظيفة والنتيجة صراع البقاء بين الحيوانات..
في الماضي، كان البشر يتقاتلون بأسلحة بدائية، ولم يكن المحارب حتى في ذروة غضبه قادرا على قتل  سوى عدد بسيط من أعدائه، أما اليوم، فبفضل التقدم التكنولوجي الذي أحرزته الرأسمالية صارت الحرب الواحدة توقع أعدادا هائلة من القتلى.
فإذا كانت قنبلة هيروشيما قد خلّفت مائة ألف قتيل في يوم واحد، وهي بقوة 13 ألف طن ت.ن.ت، فإن القنبلة النووية الحالية قدرتها تعادل 15 مليون طن ت.ن.ت، وإذا ما نشبت حرب نووية عالمية فإنها بكبسة زر قادرة على إبادة 100 مليار إنسان، أي 15 ضعف عدد سكان الأرض الحالي.
صحيح أن البشرية حققت تقدما كبيرا في مسيرتها نحو التحضر، وتهذيب آدميتها، والارتقاء بإنسانيتها.. إلا أنها لم تبرأ تماما من الرواسب البدائية المخزنة في جيناتها، تلك التي تجعلها ترتد إلى طبيعتها الحيوانية.. وصحيح أن النظام الدولي يضمن أو على الأقل ينظم الصراعات بين الدول للحيلولة دون وقوع حرب نووية.. وهذا ناجح بقدر ما لحد الآن، وربما هو السبب في منع انزلاق العالم إلى الحرب العالمية الثالثة. ولكن، لا أحد يضمن المستقبل.
هتلر، تسبب في الحرب العالمية الثانية، أو على الأقل يتحمل مسؤولية كبيرة في إطالتها، وحجم التدمير الهائل الناجم عنها.. زعماء كثيرون أتوا من قبله ومن بعده، كان جنونهم وطموحهم ونرجسيتهم سببا في حروب مدمرة.. العالم اليوم مليء بالمجانين.
مثلا، أكد علماء نفس أميركيون أن "ترامب" لا يصلح لرئاسة الدولة، وأكدوا في تقرير رسمي أنه مريض نفسيا وغير قادر عقلياً ومزاجياً على إدارة البلاد، وأنه يظهر علامات النرجسية السرطانية، وهي مزيج من النرجسية، واضطراب الشخصية المعادي للمجتمع، والعدوانية والسادية.. ومثل "ترامب"، وبشكل أخطر يأتي زعيم كوريا الشمالية.. الذي يهدد بحرب نووية.
وهناك عشر دول على الأقل تمتلك أسلحة نووية، منها إسرائيل، والتي حين بوغتت بالهجوم المصري/ السوري العام 1973، كانت على وشك اتخاذ قرار استعمال السلاح النووي.. واليوم يترأسها مجنون نرجسي اسمه "نتنياهو" وهو مستعد لحرق العالم مقابل أن يظل على كرسي الحكم.
لا أعتقد أن العالم سيصل إلى حرب نووية، على الأقل في الظرف الراهن، مهما بدا لنا جنون زعماء الدول النووية.. فمثل هكذا قرار ليس بالأمر السهل.. ولكن، لا أحد يضمن عدم ظهور زعماء أكثر جنونا وتهورا.. خاصة وأن الصراع على الموارد والمياه سيكون مسألة حياة أو موت بالنسبة لشعوب كثيرة.. وأن تعداد البشر سيكون هائلا لدرجة أن التخلص من ربعهم على الأقل سيكون ضرورياً لاستمرار الحياة على كوكب الأرض.. وهذا الاحتمال الثاني.
بالطبع هناك احتمال ثالث، وهو حل سهل وعادل وسلمي: تعاون البشر فيما بينهم، ونبذ الحروب، وإقامة صرح السلام العالمي، واقتسام خيرات الأرض بعدالة.. وضبط التكاثر السكاني.. أو أننا سنمارس الانتحار الجماعي تماما مثل الفئران.. والفرق أن الفئران تمارسه طواعية لينجو البقية، بينما البشر يمارسونه بشكل غبي، ولتدمير الآخرين.