عوّدت المملكة العربية السعودية، أهلها وأشقائها العرب والمسلمين والعالم، على سياسة هادئة متحفظة في كل الأمور، كما عوّدت الفقراء منهم وحتى بعض الأغنياء، على ان المال السعودي المتوفر بكثرة، يشكل ضمانة لهم وملاذا حين يشح المال وتتضاعف الالتزامات.
مضت المملكة في هذا الحال عقودا طويلة من الزمن، وكثيرا ما كانت تصاب بخيبات أمل من الذين منحتهم المال والدعم، حين يديرون الظهر لها حين تحتاجهم كحلفاء أو داعمين.
ومنذ ولاية الملك سلمان بن عبد العزيز، وحتى يومنا هذا، رأينا دولة أخرى ونظاما مختلفا وسياسة لا يميزها الحذر والتباطؤ والهدوء، دخلت بالطول والعرض في صراعات المنطقة وتبنت سياسات صريحة في الربيع العربي، وخاصة على الساحة السورية، وأعلنت حربا قوية على الحوثيين في اليمن، لما لصلة اليمن جغرافيا وبشريا وتاريخيا بالأمن الوطني السعودي، وليقين من القيادة السعودية بأن المعركة إن كانت اليوم في اليمن فهي غدا في السعودية ذاتها.
التقويم السعودي للظاهرة الحوثية واستيلائها على العاصمة وأجزاء أخرى من البلد الشقيق هو فعل إيراني، اذ لولا دولة مثل ايران بحجمها وامكانياتها، لما فعل الحوثيون ما فعلوا ولما صمدوا شهورا أو أسابيع.
وفي البيت الخليجي فعلت السعودية ما لم يُفعل من قبل، حين اشهرت حربا سياسية واقتصادية على قطر، معتبرة هذا البلد الصغير امتدادا غير مرغوب فيه لكل خصوم السعودية والخليج وأبرزهم بالطبع ايران.
الجبهات العديدة التي دخلتها المملكة كانت بحاجة لجراحات داخلية، بدأت حذرة ومتحفظة الى ان وصلت الى مستوى غير مسبوق، ففي الخيال فقط كان يمكن أن يُرى الوليد بن طلال والابراهيم وصالح كامل وراء القضبان، ليمثلوا امام المحاكم بتهم فساد، وقد يتسع الامر ليشمل أسماء كانت محصنة اما بمكانتها أوالقابها ، وحين بدأت بالأمير الوليد بن طلال فقد رفعت الحصانة تلقائيا عن جميع من ترى فيهم الدولة والقضاء وهيئة الفساد متهمين لا استثناء لهم.
وفي غمار ذلك وهو كثير وكثير جدا، انطلقت من المملكة قنبلة ما زال صدى انفجارها يلف الكون كله، فكانت استقالة الحريري والبيان القوي أشبه بجراحة ما زال الذهول منها يحجب الرؤية عن آثارها وتداعياتها، غير انها في السياق تطور نوعي في مجرى المساجلات الحادة بين السعودية وايران، والتي زادها حدة قبل القنبلة اللبنانية، الصاروخ الباليستي الذي استهدف الرياض، ونظر اليه سعوديا وحتى دوليا على أنه تصعيد يصل الى درجة الحرب اطلقته طهران وعليه ختم الحوثيين.
كل ما تقدم يشير الى أننا حيال دولة جديدة، ومهما بلغت قوة الإجراءات الداخلية والخارجية، الا انها تظل في طور البدايات، ويبدو انها لن تتوقف عند ما حدث حتى الآن، بل ستتواصل داخليا وخارجيا على نحو لا يعرف غير السعوديين الجدد ما هي الخطوات التالية.
وما حدث في المملكة ينبغي أن يفهم بمغزاه العملي عند الذين استسهلوا اغتراف المال من الخزينة السعودية، وبنوا سياساتهم على هذا الأساس، ذلك ان الأعباء التي تنتظر المملكة المحاربة كبيرة وثقيلة، وفي حال من هذا النوع يتراجع العمل الخيري لمصلحة العمل لخدمة الأهداف الكبرى، فما تأخذ عليك ان تعطي مقابله وهذه قاعدة ينبغي فهمها والبناء عليها.
طريق التحول السعودي طويل ومعقد ومليء بالحفر، غير أن السير عليه صار الزاميا لا حياد ولا تراجع عنه، واذا كانت الديبلوماسية السعودية مطالبة بجهد دؤوب واسع النطاق، فإن التحالفات الراسخة والموثقة والمدروسة جيدا، ستكون الضمانة لعبور المملكة هذا الطريق الطويل.
السعوديون بحاجة الى ترتيبات داخلية أكثر دقة واحكاما مما كان، والعالم بحاجة الى دولة قوية تتكامل فيها الثروة مع الدور والمعادلات التي تحكم العالم الحديث. لقد بدأ المشي على الطريق والرهان على النجاح صار حتمياً، وليس غير المواصلة والجدية والتحالفات الصحيحة والتنمية المدروسة ما يضمن ذلك.