13 حزيران 2015
منذ بدء «الربيع العربي» تغير الواقع السياسي في المنطقة تغيراً دراماتيكياً، حيث بات له تأثيرات بعيدة المدى على إسرائيل أيضا. لا يدور الحديث فقط عن تغير الحكم أو الحروب الأهلية الدموية. إن ما يحدث أمامنا هو تغيير في جوهر البنى السياسية في المنطقة.
تبلورت هذه البنى بعد الحرب العالمية الأولى وتفكك الامبراطورية العثمانية. من خلال اتفاقات سرية دولية قامت القوى العظمى بتقسيم الكعكة بينها، ورسمت الحدود، وقررت اقامة دول جديدة: اتفاق سايكس بيكو (1916)، وبعد ذلك اتفاقات سفار وسان ريمو (1920) واتفاق لوزان (1922). هذه الاتفاقات عكست موازين القوى الإمبريالية بين بريطانيا وفرنسا ورسمت حدود الدول الجديدة، متجاهلة تماما الاعتبارات الجغرافية التاريخية، العرقية والدينية. هكذا أقيمت العراق، سورية، ولبنان، كأجسام منفصلة، دون سؤال سكانها عن رأيهم. (الترتيبات المتعلقة بـ»ارض إسرائيل» كانت أكثر تعقيدا على ضوء التعهدات البريطانية المتناقضة لليهود والعرب).
صمدت هذه الدول وحدودها بعد الاستقلال لأن مصلحة الزعماء فيها كانت تتطلب الحفاظ على الوضع القائم. ومع التغيرات التي أعقبت «الربيع العربي»، بل قبل ذلك في أعقاب الدخول الأميركي الى العراق، تضعضع هذا الترتيب من الأساس. العراق وسورية لم تعودا دولا قومية عربية، حتى إن لم يتضح بعد ما هو مصير نظام الاسد. أيديولوجيا تنظيم الدولة الاسلامية (داعش) تعتمد على الغاء ما يعتبره «حدوداً مصطنعة» بين العراق وسورية، فرضت من الامبريالية الغربية. وإن كان من الصعب رؤية كيف سينجح التنظيم في اقامة سلطة فعالة – في الخلافة التي أعلن عنها – فإن هذا تحد كبير أمام وجود العراق وسورية، وخصوصا أن شمال العراق أُقيمت فيه عمليا دولة كردية.
ثلاث دول عربية اخرى توجد في عملية تفكك – ليبيا (التي أقيمت من قبل ايطاليا التي احتلت مقاطعتين عثمانيتين قبل الحرب العالمية الاولى)، السودان (التي أقيمت من قبل بريطانيا في نهاية القرن التاسع عشر، بعد قمع حركة المهدي) واليمن.
العراق، سورية، ليبيا، السودان واليمن لم تكن موجودة قبل ذلك في حالتها المعروفة، ومحاولة تشكيل دول قومية في الشرق الاوسط حسب النموذج الغربي، باءت بالفشل: بدلا من الدول حسب النموذج الغربي نرى اليوم تنظيمات تحت مدينة أو فوق مدينة (ايضا في لبنان)، ويتضح أن المنطقة توجد في فترة متصلة بعدم الاستقرار الذي يصعب التنبؤ بنتائجه، ومن غير الممكن اعادة الوضع الى ما كان عليه. مصر – جسم تاريخي قديم – قضية مختلفة رغم جميع مشكلاتها الداخلية.
المظاهرات الكبيرة، التي أسقطت زين العابدين بن علي في تونس وحسني مبارك في مصر، حظيت باسم «الربيع العربي». لكن الأمل في أن تخطو الدول العربية في أعقاب تطورات مشابهة في اوروبا، تلاشى: هناك من شبه أحداث ميدان التحرير بإسقاط الانظمة الشيوعية في العام 1989. آخرون اعتبروها مشابهة لثورات 1848 (ربيع الشعوب)، وهناك من بالغوا وشبهوها بالثورة الفرنسية. مع القيود الكثيرة التي تفرضها المقارنة التاريخية، فإن المقارنة الملائمة قد تكون ما حدث في اوروبا في القرن السابع عشر والحرب التي استمرت 30 سنة: انهيار النظام السياسي الاقطاعي والحروب الدينية المتواصلة. لا يمكن القول إن النتيجة ستكون مشابهة لما حدث في اوروبا، لكن من الواضح أن العالم – ونحن – يجب علينا التعود على وضع غياب الدول في المنطقة: هذا ما كان في اوروبا حينما انهار النظام القديم وقبل تبلور النظام الجديد.
تأثير هذه التطورات على اسرائيل معقد. فالتهديد التاريخي العربي على وجود اسرائيل نبع من القوة العسكرية للدول العربية: في 1948 وفي 1967 و1973. هذا التهديد غير موجود اليوم، ومنذ 30 سنة لم تحارب اسرائيل أي جيش عربي نظامي. سورية والعراق المفككتان ليستا تهديدا عسكريا على اسرائيل، ومصر التي لنا معها اتفاق سلام – والتي نجحت في بضعة اختبارات غير بسيطة في السنوات الاخيرة – قلقة من شؤونها الداخلية. من هذه الناحية أصاب نائب رئيس الاركان، يائير غولان، بقوله إن الوضع الاستراتيجي لاسرائيل اليوم أفضل من أي وقت مضى.
مع ذلك، نحن موجودون أمام تنظيمات ليست دولا أو اقليمية، تعتبر تهديدا وجوديا على اسرائيل، وقد تسببت بحروب غير متكافئة، حيث فشلت اسرائيل في الحسم رغم تفوق قوتها. منظمة «حزب الله» تعكس الضعف الداخلي للبنان، الذي ازدادت قوته بعد التدخل في الحرب الاهلية السورية، هذا التدخل الذي يعتبر جزءاً من الصراع السني – الشيعي في المنطقة. وسيطرة «حماس» على القطاع هي الدليل على غياب القدرة الفلسطينية على اقامة اطار سياسي متبلور: فلسطين دولة فاشلة حتى قبل اقامتها، وهذا الوضع ليس سببه السيطرة الاسرائيلية، بل لاسباب داخلية فلسطينية. من هذه الجهة فإن فلسطين هي الدليل على الصعوبة التي يواجهها العرب في اقامة الدولة القومية. الآن توجد اسرائيل أمام تحدٍ محتمل لـ»داعش». اذا نجح في السيطرة على مناطق اخرى في سورية (سيطرته على كل سورية تبدو غير ممكنة) هل يمكن اقتراح استراتيجية شاملة لاسرائيل في ظل عدم وجودها أمام دول وانما أمام تنظيمات مثل هذه؟.
لا يوجد جواب بسيط على هذا السؤال (الفشل الاميركي أمام «داعش» يثبت أن هذه ليست مشكلة اسرائيل فقط). الاعتبار الاول يلزمنا بانتهاج سياسة حذرة، بسبب تعقد التحدي وبسبب أن هذه التنظيمات لا تشكل خطرا وجوديا، يجب الحذر من عدم الانجرار الى مواجهة بسبب هذه الاعمال أو تلك، مهما كانت صعبة من الناحية الجوهرية.
من هذه الناحية، فإن من لا يوافق على سياسة حكومة نتنياهو في الشأن الفلسطيني، الذي يتسبب لنا بغضب العالم الديمقراطي، يجب عليه أن يمتدحها على حذرها فيما يتعلق بالحرب الاهلية في سورية: الطرفان المتقاتلان ليسا مريحين لاسرائيل، وابقاؤها على الغيار «الواطي» في الدعم الانساني في هضبة الجولان أمر صحيح. يجب تذكر ذلك على ضوء التجربة السلبية التي كانت لنا في لبنان في 1970 و1980 حيث تراجعت المساعدة الانسانية في «الجدار الجيد» في المتلة للمارونيين: من الجيد معرفة أننا نتعلم احيانا من التجربة. رغم أننا نشاهد بقلق مذابح نظام الاسد من جهة و»داعش» من جهة اخرى، ليس باستطاعتنا – وليس من واجبنا - حل هذه المشكلة العربية الداخلية.
اذا سقط نظام الاسد – أو تقلصت سلطته في المنطقة العلوية في محيط اللاذقية – فمن الصعب رؤية كيف سينجح «داعش» في خلق نظام فاعل في سورية. على اسرائيل أن تتابع بحذر ما يحدث هناك، وأن تكون مستعدة للاستفزازات، لكن عدم الانفعال: تصريحات الحكومة حول أن «داعش» هو خطر وجودي على اسرائيل يمكن تفهمها من الناحية الاسرائيلية الداخلية، لكنها خطيرة من الناحية الاستراتيجية. «حزب الله» ايضا سيتصرف بحذر عندما سيفقد الدعامة السورية. وهنا ايضا يجب النظر بحكمة وليس بهستيريا. مصير القرى الدرزية في هضبة الجولان السورية التي تؤيد الاسد، يضع اسرائيل أمام التحدي بسبب قلق الدروز في اسرائيل على مصير اخوتهم. هنا ايضا يجب التصرف بحذر ومراعاة الطائفة الدرزية، دون الانجرار الى أحلام اليقظة.
قَسَم الاطباء «فوق كل شيء لا تسبب ضررا»، قد يكون وصفة جيدة لمصممي الدول. النقاشات الداخلية التي تتم في الجيش الاسرائيلي والاجهزة الامنية تشير الى الهدوء والحذر والتصميم. محظور أن تسبب التصريحات المتلهفة للسياسيين بجر اسرائيل الى اماكن ليس من الحكمة الاستراتيجية الذهاب اليها.
عن «هآرتس»