إرث السبعينيات الثقيل

عبد الغني سلامة.jpg
حجم الخط

تتوالد الأحداث من بعضها، فإما أن تكبر وتتراكم ككرة الثلج.. أو تتشعب وتتخذ مسارات عدة متباينة. لكنها في الأصل تكون قد انطلقت من نفس الحدث. 
في العام 1970 توفي "جمال عبد الناصر". ربما كان موته الحدث الأبرز لذلك العام، لكن أحداثاً مهمة سبقت رحيله بقليل، وكانت متأثرة بحياته، وأحداثاً أخرى حصلت فيما بعد، كانت عبارة عن تداعيات متسلسلة ناجمة عن ذلك الحدث الجلل.. ومع أنه كان في الثانية والخمسين من عمره، إلا أنه كان بمثابة الزعيم والأب البطريرك للأمة؛ لذا كان رحيله فرصة للصغار للتحرر من عقدة الأب.
لنبدأ من حيث عاش ومات الزعيم: في مصر؛ ورث الحكم من بعده "أنور السادات"، الذي شعر آنذاك بأن بإمكانه إطلاق أفكاره الذي ظل محتفظاً بها 19 عاماً، وسرعان ما انقلب الوريث على الوارث؛ غيّر نهجه الاقتصاديّ والاجتماعي والأمني، وكل تحالفاته الدوليّة. خارجياً: فكّ تحالفه مع السوفيات، وتوجه غرباً نحو واشنطن، داخلياً: أطلق "الإخوان" من السجون، وفتح لهم الأبواب ليكنسوا كل إرث ناصري أو شيوعي.. وكانت نتيجة ذلك انفجار المرجل الإخواني، والذي أحرق السادات نفسه، أي على يد من أطلقهم من القمقم.
قبل وفاة "عبد الناصر" بعام واحد، في جنوب مصر، استولى "جعفر النميري" على السلطة في الخرطوم، واصفاً نفسه بأنّه ناصريّ. وإلى الغرب وفي العام ذاته، استولى "معمّر القذّافي" على السلطة في طرابلس واصفاً نفسه، هو الآخر، بأنّه ناصريّ. "النميري" دام حكمه إلى أواسط الثمانينيات، تاركاً بلاده على حافة الجوع، ومنهياً حكمه بتحالف مريب مع "الترابي".. أما "القذافي"، فدام حكمه 41 عاماً، لينتهي بشكل دموي بائس، فاتحاً البلاد على بوابة الفتنة والاحتراب الداخلي.
في نفس العام (1970) نشب نزاع مؤسف بين المملكة الأردنيّة ومنظّمة التحرير الفلسطينيّة. أسماه الفلسطينيّون "أيلول الأسود"، انتهى عملياً بعد ذلك بعام في عجلون، لتنتقل الثورة بقياداتها وقواتها إلى لبنان. وقد شكل هذا النزاع نذيراً مبكراً بأنّ العلاقات الداخلية بين العرب سيّئة جدّاً، وأنّ القضيّة الفلسطينية لم تعد عاملاً لتحقيق الوحدة العربيّة، بل صارت وصفة لتفجير علاقات الأخوّة، إضافة إلى تنبه الأنظمة لكونها ورقة رابحة، لتتسابق على من يمسك بها.
في نفس العام (1970)، انتُخب "سليمان فرنجيّة" رئيساً للبنان، بفارق صوت واحد ضد المرشّح "إلياس سركيس"، والذي سيصير الرئيس التالي.. قبل ذلك بعام، كانت المقاومة الفلسطينيّة تقوي حضورها المسلّح في لبنان، وكانت "المارونيّة السياسيّة" تجهز وتسلّح الميليشيات المسيحية، وبدا واضحاً أن لبنان على مشارف حرب أهليّة.
إلى الجوار، وفي نفس العام (1970)، حُسم الصراع داخل السلطة البعثيّة لصالح "حافظ الأسد"، على خلفية التدخّل في أحداث أيلول بعمّان، ومع "الحركة التصحيحيّة" بدأ عهد جديد، ما زال قائماً لليوم، من أهم سماته، طغيان الحكم، واستبداد أجهزة الدولة وفسادها، واستفحال الطائفيّة، وتعميق التفاوت الطبقي.
وفي نفس العام (1970) وإلى الشرق، توصّل "صدام حسين" و"مصطفى البارزاني" إلى "معاهدة آذار"، التي تقضي بإقامة منطقة حكم ذاتيّ للأكراد في المحافظات الشمالية، المعاهدة التي لم تصمد طويلاً، وافتتحت حرباً جديدة، انتهت بقيام إقليم كردستان في زمن الاحتلال الأميركي، وهذا الإقليم يطالب اليوم بالانفصال عن العراق.
في الشهر الأخير من العام 1970، أصبح اسم اليمن الجنوبيّ، جمهورية اليمن الديمقراطيّة الشعبية، أي بعد استيلاء "الجبهة القوميّة" على البلد، والتي صار اسمها "الحزب الاشتراكيّ اليمنيّ"، وبعد انقلاب "سالم الربيع" على "قحطان الشعبي"، وحيث استمر بعد ذلك مسلسل الاقتتال اليمني، في ثلاث جولات كبيرة، قتل فيها الآلاف.
تلك أبرز الأحداث التي وقعت بداية عقد السبعينيات، ومهدت لكل الأحداث الكبيرة التي وقعت خلاله: تصاعُد الصراع المسلح بين الثورة الفلسطينية وإسرائيل خاصة في الجنوب اللبناني، حرب أكتوبر، الطفرة النفطية في إيران والخليج العربي، الحرب الأهلية اللبنانية، البرنامج المرحلي، اتفاق كامب ديفيد.. في إسرائيل صعود الليكود، وبداية أفول عصر الأشكناز.
أما نهاية العقد، فقد شهدت الأحداث الأكثر أهمية، والتي ستدشن عصراً جديداً مختلفاً كلياً بسماته وخصائصه وشخوصه.. لكنها بشكل أو بآخر امتداداً للحدث الأول الذي وقع خريف العام 1970.. رحيل عبد الناصر.
بدأ "حمل" كل تلك الأحداث في العام 1970، وجاءت الولادة بعد تسع سنين، في العام 1979، في ذلك العام انتصرت الثورة الشعبية الإيرانية، وتمكن "الخميني" من الاستيلاء عليها، وتحويل إيران إلى جمهورية إسلامية، وفي نفس العام غزا السوفيات أفغانستان، واقتحم "جهيمان العتيبي" الحرم المكي وأعلن ظهور المهدي، وإقامة أول دولة داعشية (على حد وصف حسن خضر)، والتي دامت أسبوعين.. وهذه الولادة أنجبت ما أطلق عليه "الصحوة الدينية".. هي لم تكن صحوة بالمعنى الأخلاقي والقيمي، ولا حتى الديني.. بل كانت بدايات التحولات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي غُلّفت بالدين لتجميلها.. فقط لا غير.
فَهِمَ حكّام السعودية أحداث العام 1979 من منظورهم الخاص: الغزو السوفياتي فرصة لبث الأفكار الوهابية تحت مسمى الجهاد.. استيلاء الخميني على الحكم يعني إطلاق مارد الصراع السني الشيعي، خاصة وأن إيران أعلنت مبدأ تصدير الثورة، وبالتالي على السعودية اللجوء إلى المؤسسة الدينية لتعزيز حكمها.. أما اقتحام "جهيمان" للكعبة، فقد ربطوه بما حصل في الثورة الإيرانية التي أسقطت الشاه، فأدركوا أن استعداء رجال الدين، والمؤسسة الدينية، كان سبباً رئيساً أسهم في الإطاحة بالشاه، وهذا يعني أن على النظام السعودي إيقاف عجلة التحديث (رغم هشاشتها)، وتقريب رجال الدين والاحتماء بما يمثلونه من شرعية دينية، في مواجهة أي تطورات محتملة.. أي احتواء المؤسسة الدينية.. وهذه كانت أسباب بدء ما أسمته السعودية الصحوة الدينية.
تلك اللحظة الفارقة في تاريخ المنطقة، التي وُلدت العام 1979، ستنجب بعد سنوات قليلة ابن لادن، والزرقاوي، والبغدادي.
لو أن عبد الناصر تدارك أخطاءه الكبرى، ولو أن مشروع الوحدة مع سورية نجح، ولم تقع النكسة (وتلك فرضيات لا طائل منها الآن)، ولكن، لنقل: لو أن الناصرية ترسخت مؤسسياً بالشكل الذي أراده صاحبها، واستمرت مصر بقيادة العالم العربي، مع تحديث التجربة وتخليصها من أدرانها، لما وقعت كل تلك الأحداث.. بل كانت ستأخذ مسارات مختلفة كلياً.