مما لا شك فيه أن الصراع المحتدم بالمنطقة يلقي بظلاله على القضية الفلسطينية بحيث أنه بات واضحا أن قضيتنا أصبحت في ذيل الأولويات العربية والاقليمية فلا هي أولوية لدى الدول العربية، ولا هي أولوية لدى دول الاقليم أيضا مثل ايران وتركيا.
إن فهمنا لمعادلة الصراع بالمنطقة في ظل الانسحاب الامريكي المؤقت من التدخل المباشر، والدخول الروسي ليعوض نقص القوة وليتمدد بمصالحه، وبانتظار التنين الصيني وهو يصحو من غفوته، يعني أن المواقف يُعاد تركيبها على قاعدة حجم التمدد والنفوذ والمصالح لهذا المحور أو ذاك ولا قيمة للقيم الأخلاقية هنا، فلا ينخدع أحدنا بمسميات بلا معنى مثل "محور المقاومة"، أو محور "دعم أهل السنة" أو"ثارات الحسين" فهي كلها مجرد استخدامات سياسية واستبدادية ذات طابع مفذلك سواء لفلسطين كمقاومة، أو للطائفة محمولة على أكتاف التمدد والنفوذ السياسي والهيمنة.
حين يختلف الفرقاء ويصل بهم الاختلاف الى حد التصادم تصبح الشائعات والأكاذيب والاتهامات كثيرة، ويقوم كلا الطرفين بالبحث في التاريخ بنهم، ولا بد أن تجد منه البائس والأسود، إلا أنه حين الأزمة يصبح وكأن لا غيره فتنشب الحرب.
حين التصادم تنتشر ثقافة الاتهامات والأكاذيب الرائجة، وتنتشر المقولات المطلقة، فيصبح الوهابيون خونة ومتآمرين، ويصبح السعوديون والاماراتيون عملاء الغرب، ويصبح الحج الى النجف أوكربلاء يساوي 70 حجة الى مكة ، ويصبح حزب الله ارهابيا وحركة فتح وحماس معا، وتصبح مصر في الدرك الأسفل من الأمة، ويصبح كل اليمنيين العرب الأقحاح أتباع ظل الله في الأرض، وهكذا.
حين التصادم يتم قتل الحسين مرارا وتكرارا، وبيد كنعان ذاته، واليوم بيد "أهل السنة" من "النواصب" جميعا، أي كل المسلمين، ويصبح بالمقابل معاوية أو يزيد نبيا لم تلطخ يديه بدماء الابرياء والشهداء من طلاب الحق والعدالة، ويصبح كل الشيعة "روافض" منبوذين، فتعلو رايات ثارات الحسين أوثارات بني أمية البغيضة.
نحن كمسلمين ونحن كعرب وواسطة العقد كفلسطينيين لا نقبل الحفر بالتاريخ واستخدام قاذوراته الطائفية أو المذهبية او الاقليمية أو القبلية واعادة بعثها على أنها حقائق دامغة، وما هي الا أداة تسعير للنار المشتعلة، ونحن لن نقف أبدا ضد أي من جناحي الأمة من السنة والشيعة فكلاهما وعلى تعدد تياراتهما المستنيرة-غير المتطرفة- لا غنى لأحدهما عن الآخر، وبكليهما ننطلق.
نحن حين نرفض التطرف "المنسوب" لهذه الطائفة أو تلك لا نحمله للطائفة أبدا، أو للدين، مهما كانت عقيدنا المختلفة، فلا نحسب "داعش" و"القاعدة" و"النصرة" والاسلامويين المتطرفين على الاسلام السمح، كما لا نحسب مجازر "الحشد الشعبي" أو ما تسمى "عصائب أهل الحق" الشيعية على أفعال الأخوة الشيعة، أو المسلمين عامة أبدا، فكل عمل عنيف أوتكفيري أو إرهابي أو اقصائي مدان من أي جهة كان.
في ظل الحرب الاقليمية الدائرة بين المحور الايراني الذي يتمدد في جسد الامة من جهة، والمحور العربي يستخدم الكثيرون سلاح الأكاذيب والاشاعات، ومنها ضد نظام ايران، ومنها ضد السعودية، ونحن لا نقبل أن نكون وقود أي حرب فنحن واسطة العقد ونحن القضية المركزية.
لذا نحن نرفض الفتنة القائمة في العراق وسوريا واليمن وليبيا والسودان والصومال، وكل أركان دولنا العربية، ولا نقف الا مع الشعب وضد الاعتداء على الأمة من أي طرف خارجي، كما نقف مع الشعوب أبدا ضد سلاطينها المستبدين الجائرين.
لن نتساوق مع الاتهامات "الفكرانية" الايديولوجية أو التاريخية الظلامية ضد هذا الشعب أوالنظام أو ذاك، أوتلك التي تتهم طرف أو آخر بالمؤامرة مع الصهيونية أو روسيا أو أمريكا، وما هي الا مصالح-والمصالح متغيرة-ومع رفضنا المطلق للاعتداء من أي كان على أمتنا العربية سواء من أمريكا أو روسيا أوتركيا أوإيران أوغيرها، فلن نكون أداة توتير أو اثارة فتنة.
لنضرب مثالا هنا فأن يعلن حسن نصر الله نهارا جهارا أنه تابع للولي الفقيه الذي يحكم إيران فهذا شأنه وفكره الديني ولا علاقة لنا به، وإن كنا لا نقبل عقديا المفهوم الإلهي للشخوص أبدا، ولكن أن يحرض على قتل الزعيم الخالد ياسر عرفات كما فعل سابقا فلم نكن معه، كما أننا لسنا معه حين وجه السلاح في صدورنا كما حصل من "حماس" في غزة؟
وفي ذات السياق لرفضي لفكرة النيابة عن الله (أو ظل الله في الأرض) التي ترتبط بفكرة ولاية الفقيه التي يرفضها نصف اخواني المستنيرين من الشيعة، نرفض فكرة النيابة عن الله مما تطرحه "داعش" والتيارات الاسلاموية الدائرة في ذات الفلك، فكلاهما أي الفكر الشيعي المتطرف والسني المتطرف مرفوضان، كما نرفض الفكر المسيحي المتطرف سواء بسواء وعلى رأسه المسيحي-الصهيوني.
في ذات السياق وكمثال هنا تلقي المملكة العربية السعودية هجوما حادا، وكأن المحور الآخر أي النظام في إيران بطل النصر، وبطل التحرير لفلسطين، أو كأنه لا يحمل أهدافا مصلحية اقتصادية ومطامع امبراطورية واضحة، أو كأنه لا يلعب بالمذهب فيحمله على أكتاف السياسة ببشاعة الاستغلال للمؤمنين.
نحن في هذا الخضم يكفينا المواقف العملية المشرفة تجاه فلسطين من قبل السعودية، ولنقل منذ أول شحنة أسلحة روسية قدمت للثورة الفلسطينية عام 1969 بأموال سعودية، الى الدعم المتواصل الذي لم يتوقف في حرب عام 1973، وما تلاها حتى اليوم، بينما المحور الآخر لم يكن له إلا دعم طرف ضد طرف، أو تثويره ضد القيادة الشرعية ، أوالسعي الحثيث للحلول مكان منظمة التحرير الفلسطينية كما هو شأن النظام السوري منذ الأسد الأب، وخضنا ضدهم معارك القرار الوطني الفلسطيني المستقل في المركب العربي.
إن المواقف الداعمة لفلسطين من قبل إيران أو تركيا أو روسيا نحترمها ونقدرها، ولا نقبل الثقوب التي يحدثونها في جسد الأمة، أو في جسدنا الفلسطيني، ونعمل لجعل فلسطين دوما هي القضية المركزية وهي مقياسنا فقط.
السعودية التي يطالها الاتهام اليوم بالغمز من قناة القضية الفلسطينية مهما كان من رأي بالصراع بالمنطقة وتصادم المواقف وعدم رضانا الشخصي عن استعارالحرب شمالا وجنوبا وشرقا وغربا، فإن الموقف الواضح من القضية الفلسطينية ومن الدولة الفلسطينية ومن تطبيق المبادرة العربية هو الموقف الذي نقدره ونحترمه وهو الموقف الرسمي الذي أكدت عليه المملكة في زيارة الرئيس أبومازن الاخيرة للمملكة.
لن نكون أداة تفجير ولن نكون الحبوب التي تلقي في الطاحونة، ولن نكون عامل الفتنة بل عامل التقريب والجمع لذا فالطعن بالأشقاء واتهامهم ليس من شيمنا العربية الاسلامية والمسيحية أبدا.
إن فكرة وحدة الأمة العربية في مواجهة أخطار المحيط، ولو بالحد الادنى، قد يظن البعض أنها فكرة خيالية في ظل الانتكاسات العربية، وفي ظل نجاح دول الاقليم والفكر الاستعماري في تقسيمنا، وافقادنا الثقة بأنفسنا الى حد الاستمتاع من البعض بتتفيه العروبة وتسخيفها، ولكننا لمن لا يعلم لا يمكن أن نحرر فلسطين أبدا الا ضمن القطار العربي.
في ظل تسخيف مفهوم العروبة المقصود لدى أعداء الأمة تُرفع شعارات دعم "المحرومين"، ودم الحسين، أودعم أهل السنة، أو دعم الشيعة المحرمين بالعالم، أو شعارات الفينيقية والفرعونية والكنعانية المنفصلة عن الجذور العربية، وترفع كثير أطراف كالعادة علم فلسطين في ظل صراعات الاقليم، ونحن بمنأى كفلسطينيين عن تحويل الصراع المرتبط بوجودنا في ركب الامة الى صراع مذهبي او طائفي ، اوبصراع تسيطر عليه السياسة فتحمل المذهب على أكتافها لتحقن فيه جسد الامة مستبدلة الوحدة حول العروبية الى التمحور حول المذهب ما لا نقبله ولا نرتضيه أبدا.
نحن قاطرة ضمن هذا القطار العربي الكبير كما كان يردد المفكر والمعلم خالد الحسن، فمن يطعن بمجموع فكر الأمة الوحدوي التآلفي الذي نسعى له -على ضعفه اليوم- لا يدرك معنى التوحد خلف القضية وتكتيل القوى وحشد الامكانيات وتحديد المعسكرات ورؤية الفرص وبذل الجهد وتراكم النضالات التي بدونها يصبح العمل الثوري أو الوطني ضائعا او محدود التاثير.
إن حاجتنا للمورد البشري والمعنوي والمادي والاقتصادي والمرتبط بالزخم التاريخي والثقافي والتراثي المشترك بالأمة وهو المرتبط بمجموع قدرات هذه الأمة بشعوبها وعقولها وقادتها لا شك فيه، وهي الامة التي قاسمناها وقاسمتنا التاريخ والحضارة الواحدة والحروب والازمات والصعود والهبوط ، واختلفنا كثيرا مع أجزاء أو دول أو أنظمة فيها وتصادمنا وتصالحنا، ولكن يظل الانتماء لفلسطين ولهذه الأمة العربية التي نحن واسطة العقد فيها سفينة النجاة نحو التحرير، بل والتقدم.