في تاريخ 31/1/2017 أصدرت «محكمة العدل العليا الإسرائيلية» قرارًا موجزًا من فقرتين، قضتا عمليًا بقبول التماس تقدم به عشرة مواطنين فلسطينيين من سكان بلدة سلواد الواقعة شمال شرق مدينة رام الله ومعهم رئيس مجلس القرية ومنظمة «يش دين» اليهودية الناشطة في الدفاع عن حقوق الفلسطينيين الواقعين تحت الاحتلال الإسرائيلي.
قد تكون هاتان الفقرتان، بسبب ما أفضتا إليه على أرض الواقع، من القرارات الايجابية النادرة الصادرة عن هذه المحكمة، منذ فتحت أبوابها عام 1967 لتظلمات الفلسطينيين الملتمسين عدلها، في وجه ممارسات قوات الاحتلال الجديد وأدوات حكمه.
جاء في نص الفقرة الأولى من القرار ما يلي: «يلغى بهذا الأمر العسكري رقم 1777 بشأن المصادقة على إقامة مواقع سكنية مؤقتة ذات أهمية إقليمية وإعفائها من ضرورة الحصول على الترخيص.. والذي أصدره ووقعه قائد قوات جيش الدفاع الإسرائيلي في الضفة الغربية». وفي الفقرة الثانية للقرار جاء ما يلي: «تلغى قرارات قائد الجيش ورئيس الإدارة المدنية في الضفة الغربية، التي بموجبها قرر وضع يده على أجزاء من قطع أراض.. ومنح تلك الأراضي من خلال مجلس إقليمي ماطه بنيامين لصالح أهالي جمعية عامونة».
وقع على القرار المذكور القاضيان سليم جبران، ويورام دنتسغر، وعارضه القاضي نيل هاندل، ولقد أدى رأي الأغلبية إلى إلغاء تشريع عسكري وقرارات تنفيذية، لو لم تلغى لوضعت عشرات المباني السكنية على أراض يملكها مواطنون فلسطينيون سلواديون. لم يثر هذا القرار المقتضب في حينه، رغم نتائجه، ردود فعل في الأوساط العربية، ولم يسترع، على أهميته، تعليقات «الفسابكة «وحلفائهم، إلا بعد كتابة وإعلان مسوغاته في مطلع نوفمبر المنصرم، وبعد ما صاحبها من أخبار حيكت وبثت حسب مصلحة المروجين والناشرين وأهدافهم.
أستطيع أن أجزم أن الأكثرية الساحقة من المعلقين على القرار، لم يقرأوا مسوغاته الكاملة، التي جاءت في حوالي المئة صفحة، ولم يتحققوا كذلك من عشرات السوابق والمراجع القضائية، التي ذكّرت به وشكلت له الأرضية القانونية، وأعتقد أنه لو لم يكن من بين القضاة قاض عربي لما استُنفر المعلقون وما أعاروا القضية اهتمامًا، ففي الماضي سكتوا عن أقبح منها، وأغفلوا إصدار مئات القرارات الكارثية التي بتت فيها «المحكمة العليا» نفسها وأرست ما صار يعرف، خلال عقود من عملها كوكيلة رئيسية لمنتجات الاحتلال، بقواعد الذل والظلم في حق الفلسطينيين.
هنالك ما يبرر الغضب العربي «الأخوي» على ما عُزي للقاضي سليم جبران من مواقف وآراء، ساقها كمبررات لقراره المذكور، رغم أن بعضها لم يكن دقيقًا، وبعضها موتورًا من نصه الكامل، فالغريزة الإنسانية الأولى تتوقع أن يتخذ «ابن شعبك» مواقف تميزه عمن يخدمون من مواقعهم القضائية أيديولوجيات سياسية عدائية مثبتة، والغريزة نفسها تنتظر منه ألّا يردد إلا ما يتساوق مع أبجديات المسميات الصحيحة، فالاحتلال جريمة وأفعاله كذلك، وبديهيات العدل الطبيعي البسيط تقضي بأن يعامل الفلسطيني كصاحب حق ومظلوم، لاسيما حين يأتي مستنصرًا بمحكمة يخفق على رايتها العدل وصوتها القانون.
تابعت ما تسنى من تعقيبات على القرار، واكتشفت مرة أخرى جهل الناس بتاريخ المحكمة الأسود. وقد يكون مفيدًا للوقوف على هذا التاريخ الرجوع وقراءة مسوغات رأي قاضيي الأغلبية، وكذلك رأي القاضي المعارض واستعراضهم لتطور قواعد الأحكام الصادرة عن قضاة هذه المحكمة المتعاقبين في عشرات ملفات الأراضي المستشهد بها منذ أواخر السبعينيات، مثل قضية «ألون موريه» ولغاية اليوم وما حوته من «نظريات فقهية» وفذلكات أكاديمية، بررت عمليًا كل ما قام به الاحتلال في ترسيخ حكمه على رقاب الفلسطينيين.
قراءة لموجز ذلك التاريخ لا تترك للمتابع هامشًا للتخمين ماذا سيكون قرار القضاة، في أي ملف يقع فيه التخاصم بين فلسطينيين والجيش، أو المستوطينين الإسرائيليين، ومتابعة حصاد خمسة عقود من الإنتاج الفاسد كاف ليوصل القارئ كذلك إلى ما كان يجب أن يكون القرار «الطبيعي» في قضية أراضي سلواد الحالية؛ ولكن ما لفت نظر الشارع، كان عروبة القاضي سليم جبران، الذي أغضب عليه معلقي شبكات التواصل الاجتماعي سريعي الفوران.
إنه غضب واهم ورومانسي، لأن عروبة القاضي في إسرائيل ليست ضمانة لتميزه المهني، ولا لخروجه عن قوالب القضاء القائمة؛ فالعربي يصبح قاضيًا، خاصة في المحكمة العليا، ليس بسبب عروبته، بل ربما رغمًا عنها، وهو من لحظة انتمائه إلى «عائلة القضاة الكبيرة» يلتزم بالتصرف «بحكمة موزونة» و»بمسؤولية راشدة» لأن هوامش الحرية المؤسساتية واضحة له ولنا من قبل دخوله إلى قصور العدل.
لقد قلت في مقالتي السابقة إن المشكلة الأخطر ستبقى في القضاء الإسرائيلي وفي وظائفه، ومن يقرأ عشرات الصفحات التي كتبها القاضي جبران في قراره المذكور سيكتشف ذلك وسيرى كم تلوى هو في دهاليز الأحكام السابقة وكم تاه في تعاريجها.
أخالني أنه حاول أن يقول من خلال ذلك الشرح اللافت لنفسه ولنا وللعالم: لا سحر لديّ ولا مخارج عندي، فلقد حللوا قبلي وأجازوا الحرام، وها هي أعينكم ترى ما تضمنته عشرات القضايا، فهي مثل شريط موجع، توضح كيف صار الاحتلال حالة «مستساغة وطبيعية» وأفعاله ألبست سراويل عدل مرقع، وترينا، كذلك، كيف قبل الفلسطينيون أن يكونوا مجرد مواطنين «محميين» مثل الفراش وكيف أمسى المستوطنون «مدنيين» أصحاب حقوق قبل دخولي المحكمة، فأنا ليس أكثر من قاض مقيد في محكمة إسرائيلية!
أعرف أن القضية ليست متعلقة عند عتبات القاضي جبران، لكنني لو كنت مكانه لما كتبت كما كتب، وهو لو شاء لكتب في متون القرار لغة مستلة من قواميسه هو، ولسمى الصباح صباحاً وقال للمعتدي كفاك، خاصة في قضية واضحة كعين الديك، لكنه آثر، وهو الخارج الى التقاعد، أن ينصف الملتمسين الفلسطينيين بوسطية معقدة ورطته مع «جده ومع جدته» على السواء.
مع هذا تبقى للقرار أهمية كبيرة، فمن يتفحصه بأعين بعيدة عن حرفة التنقير الموضعي والشخصي ويحس بعجز مخاضات القاضي جبران المنهكة، يضطر أن يسأل، اذا كان هذا هو الحال فما الفائدة من توجه الفلسطينيين إلى «محكمة العدل العليا الإسرائيلية» ومتى سيتوقفون عن فعل ذلك؟ فالمشكلة كانت وما زالت مشكلة شعب يُعرّى ويذل ويسلب، لكنه آمن ويؤمن أن سكين قضاة أورشليم أسلم من حجارة «عيبال»، وأن سياط عدل الغزاة قد تنصفهم يومًا وترحمهم.
لقد كشف مجددا برأيي قرار القاضي جبران مشكلة استمرار تشبث الفلسطينيين بالتوجه إلى محكمة العدل العليا، التي لم تنصفهم ولا في أي قضية أساسية إطلاقًا، لكنه أظهر في الوقت ذاته واحدة من «معضلات» المواطنين العرب وعلاقاتهم مع المؤسسات الإسرائيلية. فهل انخراط الحقوقيين العرب في سلك القضاء على درجاته، خاصة في المحكمة العليا هو أمر مجاز ومستحب، ويعد ضربًا من نيل حقوقنا المدنية المتساوية مع مواطني الدولة اليهود؟
كلنا يعرف أن القاضي العربي مهما كان مستقلًا ومنتميًا لقضايا شعبه وصاحب ضمير حر سيصبح، بحكم موقعه وآليات العمل المتبعة وأنظمة وسياسات صياغة الأحكام ومرجعياتها، مقيدًا بسقوف قد لا ترقى لتوقعاته ومعتقداته الشخصية السابقة، أو قد تتعارض مع مواقف وأماني مجتمعه وقضايا شعبه، فالمواطن العربي عندما يصبح قاضيًا سيتصرف كإسرائيلي مستقيم، وكونه عربيًا سيبقى حقيقة خارجة عن السياق والتأثير أو العلاقة بوظيفته. فهل كان بوسع القاضي جبران أن يكتب مسوغات مختلفة لقراره؟
معظم من تعاطى مع هذه المسألة الحاسمة أغفل الإجابه عليها باستثناء الصحافي والكاتب سليم سلامة الذي عالجها بنزاهة ومهنية بارزتين في مقاله مهمة له بعنوان «القاضي جبران والإنجاز التاريخي»، وقال «حتى لو جلس شخص آخر (عربي فلسطيني) في كرسي القاضي جبران للنظر والبت في هذه القضية، لكان من المؤكد أنه سيسير في المسلك نفسه، ويتوصل إلى المقولات نفسها، ذلك أن المرجعية هنا هي القوانين الإسرائيلية والتفسيرات القانونية القضائية الملزمة، التي وضعتها المحكمة العليا في حيثيات قرارات حكم عديدة أصدرتها في السابق..». والجديد يبقى برأيه أن هذه المرة صاغ هذه المسوغات قاض عربي!
إذا عدنا إلى حيث بدأنا فعروبة القاضي في مسألة القرار لم تكن، برأيي، عاملا ذا وزن وعلاقة، ولكنها تبقى واحدة من معضلات كثيرة يعيشها المواطنون العرب في إسرائيل، وتحتاج إلى مواقف ومواجهة حقيقية. فنحن إذا تفهمنا وطالبنا كجماهير بحق المواطن العربي بالانضمام إلى سلك القضاء الإسرائيلي، نسقط حقنا بالتلويم عليه واتهامه بالخروج عن طوع القبيلة، ولا مبرر لدينا بمساءلته كيف «يخون» بقراراته الأمانة الوطنية وتوقعات أبناء شعبه أن يكون قاضيًا مختلفًا، لأنه في قصور ذلك العدل على جميع القضاة أن يتصرفوا كأبناء أورشليم.
وأخيرا أعرف كيف تسير الأمور بين قضاة المحكمة العليا، وقد يكون هنالك احتمال بأنه لو لم يسوغ القاضي جبران قراره مثلما فعل لخسر صوت القاضي دنتسيغر ولأفضى ذلك إلى رفض التماس الفلسطينيين وإقامة مستوطنة «عامونا» على أراضيهم، ولكن مع هذا فلو كنت مكانه، وأعرف أنني لن أكون، لكتبت بحكمة ما يجب أن يبقى بيرقًا في بطن التاريخ يضيء الشرق كنجمة بيت لحم، ولحفرت بحنكة لي علامة في سجل الحوادث تنطق عن إنسان رفض أن يكون شاهدًا على الظلم وزيف العدل وجبروت القانون.
عن "القدس العربي" اللندنية