تستحث أنباء الوثائق المزعومة، والتسريبات المُختلقة في صِيغها وتوقيتاتها، وهي المتعلقة بما يُسمى "إسكان الفلسطينيين في سيناء" ردود أفعال سريعة، غير ملومين أصحابها المسؤولين والإعلاميين المصريين عليها. فكلما ترددت هذه الأنباء، تُسمع الردود المصرية بكثافة، مع شُح في الردود الفلسطينية الرسمية والفصائلية، بينما الشعب الفلسطيني، أو بالأحرى جزؤه المعني بالكلام، وهو الناس في غزة، يمتلكون براهينهم على أنهم رفضوا الإسكان في سيناء وتظاهروا ضده أثناء سعي وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، في الفترة من عام 1953 الى 1955 الى تنفيذ مشروع إسكاني تنموي في سيناء، متذرعة بندرة المصادر المائية التي تلبي متطلبات الكثافة السكانية في غزة. فقد أسقط الشعب الفلسطيني ذلك المشروع، على الرغم من غواياته المادية، وكان ذلك قبل أن تتبلور السياسة الخارجية للدولة المصرية بعد ثورة يوليو 1952 وقبل أن يُطلق على قطاع غزة اسمه الحالي. فقد كانت التسمية هي "الأراضي الفلسطينية الخاضعة لإشراف القوات المسلحة المصرية" فجرى اختصارها بــ "قطاع غزة". وكان ذلك أيضاً، قبل أن تتجه مصر الى كسر احتكار الغرب لتسليح الجيش المصري، واتجاه عبد الناصر الى التسلح من الشرق، لكي يتأهل الجيش المصري لمواجهة الاحتلال، وكانت الغارة الإسرائيلية على جنوب غزة، عند نقطة ما يُسمى "البوليس الحربي" في اليوم الأخير من فبراير 1955 سبباً في تحولات استراتيجية للدولة المصرية!
كان مشروع الإسكان الذي أسقطه الفلسطينيون، هو الأول من نوعه، وظل يتكرر بين فترة وأخرى بصيغ متشابهة. وقد نوقش مرات، بين الأمم المتحدة ومصر، وكانت رؤية الدولة المصرية، تستند الى كون اللاجئين الفلسطينيين موجودين على أراضي دول عربية أخرى، لذا قبلت مصر مناقشة الأمر في إطار الفارق الكبير بين مفهوم الإسكان المؤقت ومفهوم التوطين الدائم. على الرغم من ذلك، يستُغل الموضوع سياسياً من قبل "الإخوان" حتى يومنا هذا، على الرغم من استدراك الإدارة المصرية لقطاع غزة للأمر سريعاً وتراجعها عن المُضي في المشروع، ما يدل على هشاشة الفكرة وارتجالية تناولها. وبالطبع، كان تكرار ترديد "الإخوان" لحكاية العام 1955 يهدف الى النيل من الزعيم جمال عبد الناصر الذي أشبع الثقافة السياسية العربية، بفكرة تحرير فلسطين وعودة الفلسطينيين الى ديارهم، وسَخّر مقدرات بلاده على خط الصراع من الاحتلال الصهيوني لفلسطين.
يجدر التنوية، الى أن هؤلاء في أحاديثهم، يطلقون خطأً على فكرة العام 1955 "مشروع جونستون" علماً بأن مبعوث الأمم المتحدة، جوزيف جونستون لم يكن حاضراً ولا معروفاً، فهو الذي حمل مشروعاً مشابها بعد نحو عشر سنين، أي في العام 1962، عندما زار الدول المضيفة للاجئين، لاستمزاج الرأي حول مشروع آخر، يشبه في أحد جوانبه مشروع 1955 لكنه يطرح في الوقت نفسه، بنداً لتخيير اللاجئين بين العودة والتعويض، وأن تكون العودة تدريجية، على أن يكون لإسرائيل الحق في إجراء كشف أمني على كل لاجيء يريد العودة، بمعايير وآليات وحيثيات، توافق عليها الأمم المتحدة. وفضلاً عن كون "مشروع جونستون" يبدأ بالتنمية في سيناء، فإنه ينتهي في مقترحاته بالعودة، وليته لاقى قبولاً. ومن المفارقات، أن ضباط الإدارة المصرية في غزة، هم الذين أظهروا تحمساً لتنفيذ مشروع 1955 مقابل حماسة الفلسطينيين لإسقاطه. وكان ذلك بدافع القناعة بالدواعي التنموية، وفي جوهرها تنمية زراعية في سيناء، تعتمد على جر واحد في المائة من مياه النيل، وتخفيف الكثافة السكانية في الشريط الساحلي محدود المساحة. وهذا هو نفسه الذي تحتاجة مصر الآن بالمصريين لا بالفلسطينيين. والأطرف أن نائب الحاكم الإداري العام المصري في قطاع غزة أثناء أحداث العام 1955 وكان اسمه سعد حمزة؛ وقف خطيباً في مدرسة النصيرات الإعدادية، وقال للتلامذة:"قولوا لأهلكم، إذا لم تركبوا القطار الى سيناء، فستحملون أبناءكم وأمتعتكم على رؤوسكم، وتذهبون الى سيناء مشياً على الأقدام"!
لا علاقة للفلسطييين بما يُقال عن خطط إسكان يُعاد استدعاء فكرتها، من قبل أطراف تتحايل لشطب حق الشعب الفلسطيني في أرضه. وفي الحقيقة، لم يكن الشعب الفلسطيني في أية استعادة للفكرة، متقبلاً لمنطقها، أو ضالعاً في مشروعات إسكان. فقد ظل طوال تاريخه يتطير منها ويرفضها. ويحز في النفس أن الردود التي تُسمع، وأصحابها غير ملومين عليها، تحمل شُبهة التعدي الفلسطيني المُضمر على الأراضي الفلسطينية، وكأن الأمر اختباراً لوطنية الوطنيين، على الرغم من تفهمنا للدواعي التي استحثت مثل هذه الصيغ، التي أبسط ما يقال فيها أن المصريين لن بفرطوا في ذرة تراب من أراضيهم. كنا ولا زلنا نأمل أن تشمل ردود الأفعال التأكيد على أن طروحات الإسكان، في جانب من مقاصدها، تحاول دق الإسفين وخلط الأوراق، وتخليق طامعين في أرض مصر ومقدراتها، والفلسطينيون أنفسهم بريئون من هكذا طروحات، وأن مصر بلدهم الثاني دونما توطين أو إسكان.
وجب القول مقابل صيغة أن المصريين لا يفرطون في حبة من تراب بلادهم، إن الفلسطينين لا يفكرون في النقيض، ولا يتطلعون الى الاستحواذ على حبة تراب خارج أراضيهم في فلسطين!