الوطنية الفلسطينية أمام اختبار التاريخ

طلال عوكل.jpg
حجم الخط

متأخر كثيراً، الموقف الذي أعلن عنه الرئيس الأميركي دونالد ترامب بشأن القدس، سواء كان الأمر يتعلق بنقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس، أو الإعلان عنها عاصمة لإسرائيل، وسواء أعلن عن ذلك في خطابه أو أجل الإعلان إلى وقت لاحق. ما تفكر به الولايات المتحدة، هو النتيجة المنطقية والطبيعية التي تتوافق مع جوهر السياسة الأميركية تجاه قضية الصراع الفلسطيني والعربي الإسرائيلي. هذا يعني أن الإدارات السابقة منذ إدارة الرئيس جورج بوش الأب الذي أعلن عن مبادرة مؤتمر مدريد للسلام، وإلى وقتنا الراهن، إنما كانت جزءاً من استراتيجية استهلاك الوقت لتمكين إسرائيل من رسم ملامح أي معالجة أو مبادرة لتحقيق السلام.
الإدارات السابقة كانت تتذرع، لتدير الأزمة بأنها لن تفرض على الأطراف طبيعة التسوية، لكن هذه الإدارة تنتقل من دور إدارة الأزمة إلى فرض الحل على الطريقة الإسرائيلية، وهي رغم قصر عمرها فإنها، تلجأ كل الوقت إلى سياسة العصا الغليظة ضد الفلسطينيين.
وفي الواقع فإن البطانة من المستشارين التي اختارها الرئيس ترامب لإدارته، تتشكل في معظمها من شخصيات يهودية، أو تزايد على اليهود المتطرفين في تطرفها، ما يعني أن ثمة تماثلا شديدا بين الإدارة اليمينية المتطرفة في إسرائيل، والإدارة الأميركية، وعلى الرغم من أن زمن النظام الدولي أحادي القطبية قد ولّى بعد صعود روسيا والصين، فضلاً عن أوروبا، التي تنزع نحو الاستقلالية.
نقول رغم ذلك إلاّ أن ترامب يحاول أن يعيد عقارب الساعة إلى الوراء، ويراهن على أنه الذي سيعيد للولايات المتحدة مكانتها وقوتها المتفوقة، وصاحبة القرار في الشؤون الدولية.
يتجاهل الرئيس الأميركي، المواقف الدولية الجامعة، حتى من قبل الحلفاء الطبيعيين للولايات المتحدة، الذين حذروا من خطورة الإقدام على القرار بشأن القدس ويتجاهل في الواقع حقيقة أنه في حال اتخاذه هذا القرار، فإن سياساته في المنطقة ستحصد فشلاً ذريعاً ونقصد فيما يتعلق بالتطبيع العربي الإسرائيلي، والأحلاف التي يسعى لإنشائها.
لا يدرك الرئيس المتهور بأن خطوة كهذه، من شأنها أن تعيد ترتيب القضية الفلسطينية في صدارة اهتمامات وأولويات المنطقة، ربما يعطل قدرة أو رغبة أي طرف أو نظام، على الاقتراب من اسرائيل، فضلاً عما يلحق ذلك من أضرار للعلاقات العربية والإسلامية الأميركية.
ولو افترضنا أن الرئيس ترامب، حيث كتبت هذه المقالة قبل خطابه، فإن الرسالة التي أرادها قد وصلت ومفادها، أن صفقة القرن التي يحلم بالعمل من أجل تحقيقها، لا تتضمن حقوقاً للفلسطينيين في القدس. هذا ما ينبغي للفلسطينيين أن يبنوا عليها مواقفهم وسياساتهم ونضالاتهم، حيث أن المناخ الذي خلقته تصريحات الرئيس الأميركي، من شأنها أن تشجع إسرائيل الرسمية وغير الرسمية على الاستعجال في السيطرة على المسجد الأقصى، وطالما أنها تتوقع في كل الأحوال، تصاعد المقاومة الشعبية والسياسية من قبل الفلسطينيين وقبل أن يحين موعد صفقة ترامب.
إسرائيل الفرحة بما ينتظرها، تحتفل وترقص طرباً، فما تفكر فيه الإدارة الأميركية يساوي احتلال القدس، ويفتح شهية الدولة العنصرية على ضمّ الجولان السوري، وتصعيد عمليات التهويد للقدس والاستيطان في أراضي الضفة الغربية.
الأفق السياسي بالنسبة للفلسطينيين أصبح واضحاً، ولا يدع مجالاً للتردد أو التبرير، أو المراهنات، فإذا كان عليهم أن يواصلوا الحديث عن السلام ورؤية الدولتين، فإن ذلك فقط لكي يخدم عملية تجنيد وتحشيد الرأي العام لمناصرة القضية الفلسطينية.
أما استمرار المراهنة على تحقيق المشروع الوطني من خلال نهج البحث عن السلام من خلال المفاوضات، فإن الوقائع على الأرض حتى قبل وضوح الموقف الأميركي من قضية القدس، تشير إلى أن هذه المراهنة قد انتهت منذ وقت، ولم يعد ثمة ما يبرر استمرارها.
لا يكتشف الفلسطينيون القمر، حين يعودون إلى الأصل، والأصل هو أنه صراع وجود وحقوق على كل أرض فلسطين التاريخية، وأنها بذلك تعقد الأمور أمام كتيبتها المتقدمة التي تسمى إسرائيل. هنا تتبدل المراهنات لكي تتجه نحو المراهنة على حركة التاريخ، التي ستنصف الفلسطينيين لا محالة وربما في آجال ليست بعيدة، لأن هذه الدولة لا يمكن إلاّ أن تواصل التعريف بطبيعتها كدولة عدوانية، عنصرية، ومشروع استعماري وظيفي وإن طال أمده. المهم أن لا تأخذ بعضنا العزة بالإثم، فينفرد كل طرف بالرد على مواقف الولايات المتحدة وإسرائيل، إذ يتطلب الأمر، التوافق على قرار وسياسة وخيارات وطنية جامعة، بما في ذلك الاتفاق على وسائل خوض المعركة.
الموقف الوطني الفلسطيني العام هو الذي يفترض أن يؤسس لموقف عربي وإسلامي، ينبني على ما صدر حتى الآن من تصريحات ومواقف إيجابية، على الرغم من أنها لا تزال في مستوى الكلام والبيان، على أن أول خطوة ينبغي على الفلسطينيين أن يقدموا عليها بشجاعة واستعجال، تتمثل في إنجاز الخطوات المقررة من اتفاق المصالحة، ولإطلاق طاقة الشعب الفلسطيني، وتعزيز صموده على أرضه، ما يستدعي إعادة شحن الوطنية الفلسطينية بما يتجاوز القضايا المطلبية، التي لا يجوز إهمالها وتجاهل أهمية تحقيقها. هذه اللحظة هي لحظة اختبار تاريخية لوطنية وحكمة والتزام القيادات السياسية ولمدى استعدادها لتقديم المصلحة الوطنية على المصالح والرؤى الفصائلية، والشخصية.