طريق واحد أو لا طريق

200491512128008.jpg
حجم الخط

 

لم تكن العِلة أصلاً، في دونالد ترامب، على ما فيه من القُبح الذي يراه حتى الذين يؤيدونه في مزاعمه عن القدس. وليست خسارتنا الكبرى في القدس، على الرُغم من عِظم شأنها، وهي التي كنا ولا زلنا، أصلاً، نخسرها على الأرض في كل يوم، بالاحتلال وبعملية التهويد الجارية على قدمٍ وساق. فالعلة فينا جميعاً، فلسطينيين وعرب، والمتسببون في العلة، فلسطينيون وعرب، وضحاياها بالطبع، فلسطينيون وعرب. فما حديث ترامب أمس، إلا جزءاً من محصلة السياق الذي جرت ولا تزال تجري فيه الحوادث والمقاربات!

لعل 99% من ردود الأفعال العربية على قرار ترامب أمس، جاءت في سياق توصيف الخطوة، أو في توقعات نتائجها، أو التحذير من انعكاسها حريقاً أو تطرفاً. وهذا كله محسوب عند الإدارة الأمريكية، وهو بالنسبة لها مثل زن الناموس. يمكننا أن نصف باقتضاب، على أن يكون الوصف، توطئة لسياسات جديدة!

ربما يكون الجديد، الذي حملته مقولات ترامب أمس، هو المجاهرة الفظة، بازدراء أصحابه الكرماء والمعتدلون والمتحالفون معه بشروطه. فقد بلغ إزدراؤه بهم، أن يهاتف بعضهم لإبلاغه أنه بصدد إسماعهم وإسماع العالم الحقيقة التي كرسوا حياتهم لإخفائها. هؤلاء الذين جعلوا التفاعلات الاجتماعية في بلدانهم تنأى تماماً عن الطريق الى الأوطان كلها، وتنأى بالنتيجة، عن الطريق الى القدس. فالطريق الى الأخيرة، تمر حُكما، بمساحات تظللها العدالة وتحيا فيها الشعوب سيّدة، تمتلك إراداتها. لقد فعل هؤلاء كل شيء، لتظهير كل النعرات الرميمة، وإطلاق كل أنواع الفتن، وتعميق البغضاء، وتأجيج النزاعات الداخلية، وتعميق الاستبداد وإفقار الناس ومحو ثقافة المروءة والمعرفة، وأخذوا العالم العربي الى سياقات العدم والخَوْر والتيه الطويل والجهل بمعنى أن نكون!

فلماذا الاستغراب أو الإحساس بالصدمة، وكأن  القدس قد احتُلت مساء أمس بتوقيت بلادنا بقرار من ترامب. إن ما حدث أمس مختلف. إنه احتلال  كرامات كل من ارتضوا أمريكا صديقاً داعماً ووسيطاً، سواء كانت تلك، أمريكا كارتر أو أوباما أو بوش أو ترامب. فلا فرق بين هؤلاء سوى في اللغة المستخدمة عند الإفصاح عن الموقف، وربما يكون ترامب أفضلهم بالنسبة للأمريكيين الذين انتخبوة، وأصدقهم في الإفصاح عن إرادة مجتمع المال والأعمال والسوق العقارية وصناعة السلاح، وسائر مكونات هذا المجتمع الذي يُنتح حصراً من يحكمون الولايات المتحدة، ويقرر من يسكن البيت الأبيض!

في إبريل 1970 قصفت إسرائيل بطائرات أمريكية، المدرسة الابتدائية في قرية بحر البقر في محافظة الشرقية المصرية، فقتلت ثلاثين طفلاً وأصابت خمسين. في اليوم التالي، كتب الشاعر صلاح جاهين، أغنية للإذاعة، على شكل محاكمة للولايات المتحدة، تنعقد في المدرسة ويتولى الأطفال فيها مهمة القضاء، وجاء في الحُكم وفي الخاتمة أن "البيت الأبيض لا يخجل" وربما لم يُصدق الكثيرون آنذاك، أن البيت الأبيض لا ولن يخجل!

فها هو ترامب، لا يستحي من إبلاغ "الأصدقاء" بما ينوي عمله، لتصبح الكُرة في ملعب من تلقوا البلاغ ومن لم يتلقوه. كان المفترض، أن يقابل اللا خجل الأمريكي بلا خجل مضاد، ينبثق عن استحالة وضع الخيط الرفيع، الذي يفصل الولايات المتحدة عن إسرائيل. لم نؤسس نحن لخجلنا، علماً بأن الولايات المتحدة التي تحكمها شريحة رجال المال والأعمال والعقارات وتجار السلاح وأرباب المصارف؛ لن تقوى على احتمال أي إضرار ناعم، بمصالحها. كان يكفي مجرد إدارة موصولة بالسياسىة، عند التصرف بالثروات وعند ارتياد أسواق السلع والسلاح، ومجرد حُسن التصرف بأراضي الدول المستقلة صاحبة الحق في السيادة على أراضيها، فلا تعطي الولايات المتحدة تسهيلات لوجستية، ولا تعاوناً أمنياً، ولا تصب في مصارفها فوائض مالية لم تستغل في وجهها الصحيح!

كان ذلك كله، يتطلب الإحساس بالمسؤولية العالية، وضرورة تدوير النزاعات المفتوحة، لكي لا تصبح الدول مسكونة بهاجس الخوف من بعضها بعضاً، وتتوهم أنها تتنفس وتعيش في حماية واشنطن!

أمامنا طريق واحد، وإن كان لا يمر من فوهة بندقية، مثلما كتب نزار قباني لأم كلثوم في العام 1968. إنه الطريق الى إعادة صياغة العلاقة مع واشنطن، لكي تتقدم هذه العلاقة أو تتراجع، على خطين متوازيين ومتلازمين: مصالح لها مواقف منها حيال قضايانا، إن لم تكن عوناً فلا تكون إضراراً!

أما فلسطين الحزينة، فقد أحرق قلبها عباس و"الإخوان". فكلا الطرفين أدمنا ضيق الأفق، وعمى البصيرة، والتمميز بين الفلسطينيين، والجشع والفساد والتفرد والكذب المديد، والخطاب ذي العنفوان وغير ذي البرهان. أحرقوا قلب فلسطين وشرايينها وعطلوا دورتها الدموية،  وجعلوا عَصبيّتها الكيانية عاهة مشهودة ومشطورة. لم يعد لفلسطين، إلا طريقاً واحداً، تذهب من خلاله الى استعادة إرادتها، لكي تستحث الآخرين على احتذائها، قبل أن يصلهم الطوفان. فقد وصلنا ووصلهم الإزدراء لكن المزيد من الطوفان ما زال على وصول!