20 حزيران 2015
تلقى وليد دقة هذا الاسبوع لاول مرة المسرحية موضع الحديث. زوجته، سناء، لفت صفحات نص مسرحية «الزمن الموازي» (للمخرج والمسرحي بشار مرقص) وجلبته له في زيارتها الى سجن هداريم. 40 دقيقة زيارة من خلف الحائط الزجاجي، مرة في الاسبوعين، دون اتصال بشري؛ اكثر من 15 سنة مرت منذ تزوجنا في السجن، دون خلوة. اكثر من 30 سنة من خلف القضبان، دون يوم واحد من الاجازة. دون مكالمة هاتفية واحدة للعائلة، حتى عندما أوشك ابوه على الموت.
هذه التفاصيل لا تهم سوى قليلين في اسرائيل. بالنسبة للاغلبية، دقة هو مخرب فلسطيني كريه، عديم كل الحقوق او الطابع الانساني، قتل الجندي موشيه تمام، وكتب مسرحية عدائية محظور عرضها. في الايام الاخيرة اضيفت الى لائحة الاتهام العامة ضده ايضا تهمة تعذيبه الجندي قبل موته. الواقع والخيال بخليط دعائي، يسارع السياسيون المتزلفون للجمهور اشعال ناره، من يائير لابيد («محظور تمويل عرض عن حياة ارهابي اختطف وقتل جنديا») وحتى نفتالي بينيت. الحقيقة: دقة ادين بقيادة الخلية التي اختطفت وقتلت تمام، ولكنه لم يشارك في الاختطاف ولا بالتعذيب او بالقتل. وقد نفى دوره وروى بانه غير فكره منذ عملية القتل. فهو اسرائيلي كان يفترض أن يتحرر في النبضة الرابعة التي تعهدت بها اسرائيل وتراجعت عنها في اللحظة الاخيرة. لو كان يهوديا قتل فلسطينيا او يهوديا قتل يهوديا، لكان تحرر منذ زمن بعيد. لو كان يغئال عمير لكانوا اتاحوا له ان يختلي بزوجته. ولكن دقة ليس شيئا من كل هذا. هو سجين من باقة الغربية يحسن الكتابة من السجن. في العام 2001 التقيته في سجن شطة – لقاء لم يسمح له بالنشر، ولكنه أثر عميقا في قلبي. كان هذا بعد أن درج على ان يرسل لي الرسائل من السجن التي كانت تتناول حصريا مصير سجناء آخرين، وليس مصيره. في العام 2005 نشرت، بعد اذنه، الرسالة المدوية والمؤثرة التي كتبها الى «اخي العزيز، ابو عمر»، الا وهو عزمي بشارة. وتقبع هذه الرسالة في أساس المسرحية التي اصبحت الآن هدفا للتحريض. ليس دقة هو الذي كتبها، بل المسرحي بشار مرقص. «الزمن الموازي» تصف حياة ثلاثة سجناء في السجن الاسرائيلي.
«اليوم ابدأ بعد السنة العشرين لي في السجن»، كتب دقة قبل عشر سنوات من سجنه. «في الماضي لم اسأل. لم يكن للزمن معنى في نظري. كانت تهمني فقط الدقائق التي تمر بسرعة جدا في زمن الزيارات القصيرة للعائلة، الدقائق التي لم تكف لأن اسأل كل الاسئلة التي سجلتها على كف يدي. هنا محظور استخدام الورق والقلم في الزيارات. والذاكرة هي وسيلتنا الوحيدة. وأنا أنسى النظر في الخطوط التي بدأت تخط في الوجه، أنسى النظر في شعرها، الذي بدأت تصبغه بالحناء كي تخفي عمرها الحقيقي. وما هو عمرها الحقيقي؟ العمر الزمني الذي لا اعرفه وعمر اعتقالي، العمر الموازي، 19 سنة.
«اكتب لكم من الزمن الموازي. لا نستخدم وحداتكم الزمنية، الدقائق او الساعات، باستثناء اللحظة التي يلتقي فيها زمننا بزمنكم، قرب نافذة الزيارات. عندها نضطر نحن لأن نتعاطى مع وحدات زمنكم.
«واحد من شباب الانتفاضة الذين جاؤوا الينا روى بان امورا كثيرة تغيرت في زمنكم. فلم يعد للهاتف عداد وليس لاطارات السيارات مطاط داخلي... نحن عالقون في الزمن الموازي، منذ ما قبل انتهاء الحرب الباردة وانحلال الاتحاد السوفييتي. نحن هنا من قبل سقوط سور برلين، قبل حرب الخليج الاولى والثانية وقبل مدريد واوسلو».
هذا الاسبوع زارته زوجته، سناء، واخوه، اسعد. وليد قال لهما: «انا لم اقتل، لم اختطف ولم اعذب. لم اكن في القتل ولا في الاختطاف مثلما يقال في وسائل الاعلام. ولم أكتب المسرحية، وحتى هنا كذبوا. في الزمن الذي حُكمت فيه كانت تعذيبات في التحقيقات التي لا توجد اليوم ولم تكن رقابة على المخابرات مثلما هي اليوم. ألم تتبق مشاكل لاسرائيل؟ لا المشكلة الفلسطينية ولا ايران؟ فقط المسرحية عن وليد دقة؟ وانا اريد أن اسأل سؤالا: هل احد ما من كل اولئك الذين يهاجمون الآن شاهد المسرحية؟ ما الذي يزعجهم – المضمون ام التمويل. عملوا الآن فيلما عن يغئال عمير. يغئال عمير يختلي بزوجته وانجب حتى الآن طفلين. اما انا فلم يسمحوا لي حتى أن ألمس امي. انا لا اطلب الرحمة ولا الغفران. ما فعلته كان نتيجة صراع. كل شيء تغير منذئذ في البلاد، وانا ايضا تغيرت. ولكني لا اريد أن اتحدث عن التغيير، حتى لا يفهم من هذا اني غيرت مبادئي. ابحثوا في امور اكثر اهمية ومصيرية. انا اتفهم قلب عائلة تمام. ولكني لا اريد أن انجر وراء الشارع. عندي مبادئي».
التقينا هذا الاسبوع اسعد عند خروجه من الزيارة في السجن. في المرة السابقة التي التقينا فيها اسعد، في اذار 2014، كان منشغلا حتى الرأس في الاستعدادات التخمينية للاحتفال بتحرير اخيه. فقد اشترى 200 بالون مضاء كي يطلقها الى سماء باقة يوم يتحرر وليد. طريق الوصول الى بيت العائلة شق من جديد، اطفال المدينة اعدوا كتابة حجارية كبيرة: «حرية»، كتبوا عليها الحرية. الام العجوز، فريدة، التي هي اليوم ابنة 85، لم تعد صاحية الذهن، ولكن اسعد واصل جلبها للزيارة في السجن لدى ابنها.
«الزمن الموازي» شاهدها اسعد مرتين وتأثر. لسكان باقة الغربية عرضت المسرحية قبل بضعة اشهر، في قاعة كيبوتس غان شموئيل المجاور، وقرابة الف من سكان المدينة جاؤوا لمشاهدتها. «انا لا افهم الاعتراض على المسرحية»، يقول اسعد، «اذا كانت هذه الميزانية، فهذا لا يعنيني، اما اذا كان هذا هو المضمون – فلو شاهدوها، لفهموها. هذه مسرحية تروي كيف يقضي سجين زمنه في السجن، من خلال بناء عود. كيف يمر الزمن في الخارج وليس في السجن. كيف يكتب وليد رسالة لابنه الذي لم يولد».
سناء رفضت هذا الاسبوع اجراء مقابلة صحافية. فهي يائسة من الامل في ان تختلي بزوجها قبل أن ينهي قضاء كامل محكوميته، 37 سنة. اسعد هو الآخر يقول ان ليس لديه اوهام. قبل أن يتودعا من خلف الحائط الزجاجي، سأل وليد عن سلامة عدنان خضر، المعتقل الاداري الذي يضرب عن الطعام منذ اكثر من اربعين يوما. سناء نجحت هذا الاسبوع في أن تراه للحظة، مع د. عنان مطر، من خلف خاتم الحراسة، في مستشفى أساف هروفيه حيث ينزل للعلاج، مكبلا بالقيود. وليد وخضر تشاركا ذات مرة زنزانة واحدة في السجن. مقهى اسعد، «مقهى نابولي» في وسط باقة، اتسع منذ ان كنا هنا في المرة السابقة، ولكن من المشكوك أن يكون صاحبه قد فاق من خيبة الامل الفظيعة لعدم تحرير أخيه. حيطان المقهى لا تزال مزينة باقتباسات عن وليد. وهكذا كتب قبل عشر سنوات: «كان يمكنني أن اواصل حياتي كعامل دهان او كعامل في محطة وقود، مثلما كنت حتى اعتقالي. كان بوسعي أن اتزوج واحدة من قريباتي وكانت ستنجب لي سبعة أو عشرة اولاد. كان بوسعي أن اشتري شاحنة. كل هذا كان ممكنا. ولكني رأيت فظائع حرب لبنان والمذبحة في صبرا وشاتيلا وهذه صدمتني. ان اكف عن الشعور بالصدمة، ان اغرق في تلبد الاحساس امام كل الفظائع – هذا كابوس بالنسبة لي. هذا هو مقياسي للاستسلام».
عن «هآرتس»